رابعا: قيام الأحزاب خاصة ومنظمات المجتمع المدني على قاعدة المواطنة وممارسة الديمقراطية داخلها وفيما بينها:
هذا المبدأ من أهم مقومات استقرار نظام الحكم الديمقراطي ويجب التأكيد عليه في مرحلة الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي، حيث تكون الاحتقانات الفئوية على أشدها والميل إلى التمترس الطائفي والإثني والقبلي والمناطقي ظاهرة بارزة، ربما نتيجة ما لحق ببعض الفئات من ظلم في عهود سابقة.
إن تأسيس نظم حكم ديمقراطية بحجة التوافقية - بما ليس هو من الديمقراطية بل يتناقض مع جوهرها - على أساس المحاصصة الطائفية البغيضة بدل الالتزام بمبدأ المواطنة في الدولة وفي الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، هو مشروع للحرب الأهلية بدلا من التأكيد على الإندماج الوطني الذي لا تقوم لنظام الحكم الديمقراطي قائمة إذا لم يتحقق حد أدنى منه، ذلك الحد القادر على تنمية مجتمع حقيقي يرتبط الأفراد والجماعات فيه بوحدة المصير.
لذلك فإن التزام الأحزاب، وما في حكمها من تنظيمات، بقاعدة المواطنة في عضويتها قولا وفعلا وقيامها بممارسة الديمقراطية داخلها، هو ضمانة حقيقية للممارسة الديمقراطية في الدولة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه كما يقال. والحزب في الدولة الديمقراطية مرشح دائما لتداول السلطة فكيف له إذا كان قائما – في داخله - على الإقصاء، أن يحكم دولة ديمقراطية لا تميز بين فئات الشعب وجماعاته عند تولي المناصب العامة.
إن الأحزاب بحكم التعريف العلمي لها هي منظمات تسعى للوصول إلى السلطة، بل ومن المحتمل وصول أي منها للحكم. ولهذا فإذا لم تكن تمارس الديمقراطية وتتداول السلطة داخلها وفيما بينها ولا تعكس عضويتها تنوعا مقبولا وطنيا، فأن نظام الحكم لن يكون ديمقراطيا، ويصعب استمرار تداول السلطة سلميا فيه عندما يكون التداول من النقيض إلى النقيض المتربص به.
من هنا فإن ممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب وفي منظمات المجتمع المدني وفيما بينها، وتركيبة العضوية فيها، تمثل مقومات رئيسية من مقومات نظام الحكم الديمقراطي.
فهذه هي الديمقراطية في المجتمع، وهذه هي الأساس للديمقراطية في الدولة و الضمانة لسلامة الممارسة.
لذلك لابد من مقاربة سياسية لإشكالية الأحزاب الدينية والمذهبية والإثنية والمناطقية التي أصبحت بارزة في الحياة السياسية العربية. وربما يكون التحالف السياسي بين الأحزاب التي لا تعكس العضوية في كل منها النسيج الوطني، وتكوين كتلة وطنية من عدد متنوع منها تتقدم للمنافسة على السلطة من خلال الانتخابات وتحكم بشكل مشترك في حالة الوصول للسلطة، هي السبيل المؤقت – إلى حين تعكس جميع الأحزاب النسيج الوطني في عضويتها - لحل هذه الإشكالية حيث وجدت أحزاب دينية أو أثنية.
الدستور الديمقراطي يجب أن يؤسس على ستة مبادئ عامة مشتركة لاكتساب أي دستور صفة «الديمقراطي». وهذه المبادئ الستة الهامة المشتركة في كل دستور ديمقراطي هي:
أولا: أن لا سيادة لفرد أو لقلة على الشعب. واعتبار الشعب مصدر السلطات، يفوضها دوريا عبر انتخابات دورية فعالة وحرة ونزيهة.
ثانيا: إقرار مبدأ المواطنة باعتبارها مصدر الحقوق ومناط الواجبات.
ثالثا: سيطرة أحكام القانون والمساواة أمامه. وأن يسود حكم القانون وليس مجرد الحكم بالقانون.
رابعا: عدم الجمع بين أي من السلطات التنفيذية أو التشريعية أو القضائية في يد شخص أو مؤسسة واحدة.
خامسا: ضمان الحقوق والحريات العامة دستوريا و قانونيا وقضائيا، ومن خلال ضمان فاعلية الأحزاب ونمو المجتمع المدني المستقل عن السلطة ورفع يد السلطة و مراكز المال والدعاية الموجهة، عن وسائل الإعلام وكافة وسائل التعبير وتأكيد حق الدفاع عن الحريات العامة وعلى الأخصّ حرية التعبير وحرية التنظيم. وكذلك ضمان حقوق الأقليات والمعارضة في إطار الجماعة الوطنية وحقوق المرأة والفئات المعرضة للاستقلال أو الإقصاء.
سادسا: تداول السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية سلميا وفق آلية انتخابات حرة ونزيهة وفعالة تحت إشراف قضائي كامل ومستقل وبوجود شفافية تحد من الفساد والإفساد والتضليل واستغلال النفوذ العام في العملية الانتخابية. ومن أجل ضمان نزاهة الانتخابات أصبحت الدول حديثة العهد في الممارسة الديمقراطية – أمريكا ألاتينية على سبيل المثال - تقيم سلطة رابعة هي سلطة إدارة الانتخابات والرقابة عليها، وهي مستقلة مثلها مثل السلطة القضائية.
جديرٌ بالتأكيد أن توصيفنا لمبادئ ومؤسسات وآليات نظم الحكم الديمقراطي قد ركز على الضوابط الرسمية والقانونية، والتي يتوقف عليها الجانب الإجرائي من الممارسة الديمقراطية. وتتوقف أهمية هذه المقومات وفاعليتها على حقيقة تطبيقها على أرض الواقع... هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى... يبقى محك الديمقراطية هو قدرتها على تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى للشعب الذي يمارسها. ومن تلك الأهداف الوطنية الكبرى بالنسبة للدول العربية اليوم، التنمية ذات الوجه الإنساني والأمن المجتمعي والقومي وكرامة الإنسان وإطلاق طاقاته الخلاقة، في إطار الحفاظ على الهُويات الجامعة والاستقلال ووحدة التراب الوطني، وتحقيق التكامل والاندماج بين الدول العربية وصولا لاتحاد متدرج بين الراغبين من الشعوب بضمانات ديمقراطية.
وغني عن القول أن مرحلة الانتقال الى نظام حكم ديمقراطي هي إنجاز تاريخي تليها عملية التحول الديمقراطي المستمرة والصعبة والتي يصادفها في الغالب توترات وربما انتكاسات وتواجهها تحديات الانتقال. وهذا المخاض تتطلب مواجهته استقرار العمل بنظام الحكم الديمقراطي. وهذا الاستقرار يتطلب بدوره وجود قناعات لدى التيارات والقوى الفاعلة، إلى جانب المواطنين عامة، بإمكانية تطبيقه واستمرار مصلحتهم في ذلك. ولا بد لتلك القناعات وذلك الإيمان من النمو، والترسخ في النفوس إلى جانب النصوص على نحو تدريجي. هذا كله حتى تصبح الممارسة الديمقراطية خلقا حميدا، والديمقراطية قيمة اجتماعية، يضبطها وعي اجتماعي ومجتمع مدني فاعل ورأي عام مستنير. وهذا كله يساعد على الارتقاء بالممارسة الديمقراطية، تدريجيا عبر عملية التحول الديمقراطي الطويلة والشاقة، من الشكل إلى المضمون.
ذلك التحول الذي يكرس أسلوب الشفافية والصدقية وقبول الآخر، ويعوّد جميع أطراف العملية الديمقراطية على تداول الرأي بتأني وأخذ مصالح الآخرين بإنصاف قبل اللجوء إلى التصويت على القرارات وتحديد الخيارات العامة من قبل المفوضين بذلك.
إقرأ أيضا لـ "علي خليفة الكواري"العدد 2706 - الإثنين 01 فبراير 2010م الموافق 17 صفر 1431هـ