أعقب الحرب الأميركية الأولى على العراق العام 1991، الدعوة إلى انعقاد مؤتمر مدريد للبحث عن تسوية على أساس قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الشأن، وفي معادلة قوامها الأرض مقابل السلام. والذي تحصَّل من مؤتمر مدريد، لم يصل إلى مستوى التسوية الشاملة بقدر ما وضع قطار التسوية على سكة مفاوضات، طالت حتى فقدت آثارها، في اتفاقات ثنائية غير مترابطة، وراوحت في مكانها في مفاوضات أخرى، لكن مازالت القوى المعنية، وخصوصا الاطراف العربية منها، تتمسك بما تدعوه، مرجعية مدريد، وذلك يرتبط، بمشاركة مختلفة المستويات لهذه الأطراف في حرب 1991، ضمن التحالف الدولي الذي تحصل يومذاك، وعليه كان مؤتمر مدريد، وليدا طبيعيا لذلك التحالف، الذي أوصل كلا من الحرب والسلام الى منتصف الطريق.
كان العرب يأملون أن تؤدي الحرب الى تسوية سياسية «عادلة» وإذا كانت كل حرب اقليمية، أو ذات صفات عالمية مستترة، كما هو توصيف الجانب الأميركي للحرب على الارهاب الدولي ومنها حربه الأخيرة على العراق، ستنتهي الى تسوية معينة، فإن السياسة العربية الرسمية تسعى الى حصول هذه التسوية في الساحة الأساسية للصراع في الشرق الأوسط، ولذلك روَّجت الادارة الاميركية، قبل شن الحرب على العراق، الى نيتها في قيام تسوية معينة في فلسطين قوامها مشروع «خريطة الطريق». ونشرت هذه الادارة خطة المشروع، بعد ساعات قليلة من اعلان جورج بوش إحراز الفوز العسكري في العراق، لكن مشروع «خريطة الطريق» يختلف في جوهوه، عن مشروع «مؤتمر مدريد» للسلام، بل لعله ينسف مشروع «مؤتمر مدريد» ويحوله الى جزء من الماضي، الذي تغيرت ظروف الحاضر عنه تغييرا أساسيا، حتى بات هذا الحاضر قلبا للماضي على قفاه أي هو نفي صريح لمعادلته من الأساس.
وتقوم أولى علامات هذا القلب أو النفي، على اعتبار الولايات المتحدة حربها ضد العراق جزءا من حروب أخرى ستتوالى وفق روزنامة مرتبطة بالفهم الاميركي الراهن للتطورات الدولية وفي مقدمتها الأوضاع في الشرق الأوسط. والاختراق الرئيسي يقوم على اعتبار النصر العسكري الذي تحقق على النظام العراقي، إنما هو نصر أميركي بمن رغب من المشاركين، وليس محصلة تحالف دولي واسع، حظي بغطاء الشرعية الدولية، كما كان عليه الأمر في حرب 1991، التي أنتجت «مؤتمر مدريد» للسلام.
إن خطة الطريق الأميركية تحصر اهتمامها بتسوية بين السلطة الفلسطينية والعدو الصهيوني وتشترط من اجل ذلك، عدم التدخل العربي في هذه التسوية، أو ترك الفلسطينيين يقررون مستقبل هذه التسوية، بمفردهم خارج كل تدخل عربي مباشرة أو مداورة، واعتبار هذه التدخل مصدر قلق وازعاج لمسيرة «خطة الطريق» نفسها، إلا إذا اقتصر على تجميل وجه الخطة، وبذلت الجهد لاقناع الفلسطينيين بحسناتها وضرورة القبول بها على علاتها من دون السعي إلى تحصيل المكاسب بل السعي إلى تغطية التنازلات، ويفسر هذا الموقف استبدال التفاوض مع عرفات بالتفاوض مع محمود عباس (أبومازن) لأن الأول ومن خلال علاقاته العربية المتشعبة، كان لايزال ينظر الى دور عربي ما في اسناد الفلسطينيين، كما كان يشترط تغطية عربية صريحة لتنازلات يتردد في الاقدام عليها أو هو يستعين بحجة الموقف العربي الرافض، لعدم قبولها والاذعان لها، فيما ينتظر وفق مخطط الادارة الاميركية ان يكون محمود عباس أكثر طواعية، وتخلصا من العامل العربي، الأمر الذي يؤهله بالمفهوم الاميركي، لتقديم تنازلات كان ياسر عرفات، يعتبرها مرفوضة من اجماع عربي، يشترطه على طريقته ووفق الظروف المحيطة.
الأمر الآخر الذي الذي يميز «خريطة الطريق» عن «مؤتمر مدريد» هو اقتصار الخريطة على الساحة الفلسطينية، فيما ابقاء التسوية الشاملة الى مرحلة لاحقة ترتبط بظروف أخرى، لعل في مقدمتها تأخير التسوية الشاملة الى ما بعد نتائج الحرب الاميركية على ما تسميه الارهاب الدولي. إن سلم الأولويات الأميركية يقوم على اصطفاف يختلف عن سلم الاولويات عند الاطراف العربية، وفيه تأجيل التسوية الشاملة في المنطقة الى مرحلة لاحقة، تنضج من خلالها الظروف المناسبة للطرف الاميركي، بعد تحقيق مفاعيل الحرب على العراق، والحرب على (الارهاب) والحرب على منظمة (أوبك) والحرب على الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، والشرعية الدولية، وكذلك الدول المارقة في الشرق والغرب، لتكون التسوية الشاملة، ثمرة ناضجة للتناول الشهي على المائدة الاميركية - الصهيونية المشتركة.
إذا كانت كل حرب تعقبها تسوية سياسية، كما هو معروف في قاموس السياسة، باعتبار الحرب ممارسة للسياسة بوسائل أخرى، فإن التسوية السياسية للحرب الاخيرة على العراق تقوم على ما تعتبره اميركا حقها في رسم مستقبل العراق بمفردها مع تحالف من رغب الدول المشاركة لها، من دون اعطاء الدول العربية دورا ملموسا في تسوية أوضاع العراق بعد الحرب، وفي هذه اللعبة صارحت الدبلوماسية الأميركية في جولات وزير الخارجية كولن باول الأخيرة، الدول العربية، بضرورة ترك العراق وشأنه، واطلاق يد الادارة الاميركية المعنية، في تحديد مستقبل الحكم فيه. إنها (خطة طريق) من نوع آخر للعراق، لكنها تحمل اسما مغايرا عنوانه بناء سلطة محلية عراقية واعادة الاعمار. وعلى الدول العربية تسهيل هذه المهمة، والتفرج على مسرحيتها الجارية من بعيد والاكتفاء بانتظار الوقت المناسب للتعلم من نموذج العراق في المستقبل وتكييف أوضاعه الداخلية، وسياستها الخارجية، بما يتناسب مع ما تدعوه الادارة الاميركية، بدينامية الوضع الجديد في المنطقة.
إن التسوية الشاملة في المنطقة، تراوح مكانها بانتظار أمور ثلاثة:
1- حرب اقليمية أو ذات مواصفات عالمية جديدة، تنتظر تسوية تتناسب ونتائجها المنتظرة.
2- تكييف الوضع العربي مع ما يشبه نتائج هذه الحرب من دون حدوثها.
3- احكام السيطرة الاميركية على مستقبل العراق.
وبين هذه الأمور الثلاثة لا تلتفت الادارة الاميركية الى ما يمكن ان يحدث من تداعيات داخلية عربية، كنتيجة داخلية لهذه السياسة الخارجية لدول عظمى، فالتة من كل عقال للعقل والأخلاق، حتى لو أدت هذه السياسة الى فوضى عارمة في المنطقة، أمنية وسياسية واقتصادية، بل لعلها تستدعي هذه الفوضى، من الاستقرار الأمني، الى استقرار أسعار النفط، وهي في ذلك تعمل على قاعدة أن الخراب يستدعي طائر البوم، وطائر البوم يجلب الخراب.
مسكين طائر البوم، ولكن إلى متى ستبقى حاملات الطائرات الأميركية متجمعة في المنطقة؟ ولماذا تتمسك أميركا بحكومة ارييل شارون، وكيف اشترطت تسليم «خريطة الطريق» لحكومة محمود عباس. أما بشأن الحكومة العراقية المنتظرة، فإن الأمر لا يبدو سهلا، إن حكومة البوم العراقية ولت، والذي ينتظره العراق، بفعل حركة شعبه العريق والمجاهد، حكومة من النوع الذي يجلب طائر الفينيق أو السيمرغ (العنقاء) إنني أحدس أن العراق الذي خطط له أن يكون هو المشكلة الجديدة ربما كان هو الحل
العدد 270 - الإثنين 02 يونيو 2003م الموافق 01 ربيع الثاني 1424هـ