تمر الولايات المتّحدة بحالة تاريخية من الوهن والضعف نتيجة لقرارات إدارة بوش الابن السابقة الخاطئة، التي أغرقت القوة العظمى في وحول العراق وأفغانستان والعبء المالي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الناتج عن هذه الحروب.
ثم جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية لتعقّد وضع واشنطن في النظام العالمي، وكان نتيجة ذلك أن أتت إدارة جديدة بقيادة الرئيس أوباما تحت عنوان التغيير في محاولة لتدارك الأمر.
هذا التغيير يحمل ضمنا عدّة مفاهيم طارئة على الوضع دفعت الأميركيين إلى إعادة النظر في عدد من الأمور التي كان ينظر إليها كمسلّمات.
فالقوة العسكرية على سبيل المثال لم تعد الملجأ القادر على حل المشاكل، بل أصحبت مشكلة تعقّد الأوضاع وتضعف من مكانة الولايات المتّحدة العالمية.
على الصعيد الدبلوماسي أيضا أصبح هناك شعور راسخ بأهمية التعاون مع القوى الأخرى في المنظومة العالمية لأنّ المشاكل والتحدّيات أكبر من أن تقوم دوما لوحدها بحلّها مهما بلغت من قوّة وعظمة.
ومن ضمن المواضيع التي شهدت إعادة نظر أيضا القضية الفلسطينية. فالأميركيون بشكل عام والإدارة الأميركية بشكل خاص، تدرك أنّ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي والصراع العربي - الإسرائيلي أصبح يقوّض وضع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم.
ولأن أميركا لم تعد القوّة التي كانت عليها من قبل، ولأن مشاكلها تفاقمت، ولأن القضية الفلسطينية أصبحت محرّكا لكل من يريد معاداة أميركا، ولأن الأمن القومي الأميركي أصبح مهددا بسبب هذه الإشكالية قبل هذا وذاك، أصبح حل هذه المعضلة أمرا أساسيا.
نتنياهو يعلم الحقائق الضاغطة باتجاه «إسرائيل»، ولذلك عمد منذ انتخابه إلى اللجوء لعدد من التكتيكات الدبلوماسية المهمة التي تعطينا درسا في كيفية التملّص من الالتزامات والتهرّب من الضغوط:
تذرّعت «إسرائيل» بداية بالخطر النووي الإيراني والتهديد الوجودي الذي يفرضه على «إسرائيل» في محاولة لاستعطاف أميركا والغرب وتحويل الأنظار عن شرط الوقف الكامل للاستيطان كمقدمة لإجراء مفاوضات تفي إلى التوصل لتسوية ليست لصالح «إسرائيل» ولا تريدها.
وكانت الولايات المتّحدة قد عبّرت سابقا عن حنقها من التصرفات الإسرائيلية عبر رفض استقبال رئيس الأركان الإسرائيلي غابي أشكنازي في زيارته في بداية العام إلى واشنطن، حيث تفادى أي مسئول أميركي رفيع المستوى مقابلته وشمل ذلك حتى نظيره الأميركي مايكل مولن، واقتصر لقاؤه على مستشار الأمن القومي الجنرال جيمس جونس الذي رفض الخوض معه في الملف النووي ودعاه إلى التركيز على ضرورة التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين.
كما رفضت الإدارة الأميركية منح مبعوث نتنياهو إلى واشنطن مستشار مجلس الأمن القومي «عوزي أراد» تأشيرة دخول علما أن الأخير ممنوع أصلا من دخول الولايات المتّحدة لعلاقته بمسئول البنتاغون لاري فرانكلين في فضيحة نقل خطط أميركية حول إيران إلى «إسرائيل» عبر اللوبي اليهودي «ايباك».
لجأت حكومة نتنياهو في مرحلة لاحقة إلى طرح فخ التجميد المؤقت للاستيطان (مدّة 6 أشهر)، للالتفاف على الضغوط الأميركية وحشر الفلسطينيين، أي إنها تكون بذلك نفّذت شرط وقف الاستيطان «شكليا» وأرضت الأميركيين، ثمّ أجبرت المفاوض الفلسطيني على التفاوض من دون الحصول على أية مكاسب حقيقية خاصةّ أنّ الاستيطان سيتواصل فيما بعد.
وأمام التعنّت الإسرائيلي والتمسّك بهذا الطرح، قام الأميركيون بنقل الضغط على الجانب الفلسطيني للقبول به، لكن الموقف السعودي أطاح بهذا الالتفاف عندما أعلن بشكل وزيرة الخارجية سعود الفيصل بشكل واضح وقوي وفي خطوة نادرة في نيويورك رفضه المماطلة والتسويف الإسرائيلي عبر تكتيك الوقف المؤقت للاستيطان، أو طرح التطبيع الشامل قبل الحصول على خطوات إسرائيلية جدّية.
اعتمدت الدبلوماسية الإسرائيلية أيضا على التلاعب على مسألة الانقسام الفلسطيني، والمفارقة في الأمر أنّ الحكومة الإسرائيلية عملت على تعميق الانقسام من خلال تقويض السلطة الوطنية لصالح خصومها على اعتبار أنّ الأولى منخرطة في الجهد الأميركي والعربي لانتزاع تنازل من «إسرائيل» في حين أنّ خصومها يعارضون العملية السلمية وهو ما يخدم «إسرائيل» حاليا، وذلك لأن المصالح الإسرائيلية الحالية تتقاطع مع مبدأ هؤلاء من حيث رفض التفاوض. فلا «إسرائيل» تريد خوض مفاوضات من موقع المضغوط عليه، ولا خصوم السلطة يريدون مفاوضات من أساسه، ولذلك شهدنا تحركات باتجاه هذا التقاطع الذي يعزل السلطة وبالتالي يفشل الجهود الأميركية من خلال تسريب الإسرائيليين لإمكانية عقد صفقة للأسرى وهو بالتأكيد ما سيعزز من وضع حماس في الداخل الفلسطيني، كما عبّر موفاز في محطات عديدة عن إمكانية استبدال السلطة بحماس عن طريق التفاوض مع الأخيرة.
بعد تعميق الانقسام الفلسطيني والتلاعب عليه، طرحت الحكومة الإسرائيلية موضوع عدم وجود شريك فلسطيني للسلام، على اعتبار أن حماس لا تفاوض وأنّ الرئيس الفلسطيني لا يصلح لأن يتم التفاوض معه، فهو ضعيف ولا يمثّل كل الفلسطينيين في ظل الانقسام الحاصل، وطلبت «إسرائيل» بالتالي تأجيل التفاوض إلى حين حل المشكلة الفلسطينية المتمثلة في الانقسام. وكأن الإسرائيليين يأبهون للوحدة الفلسطينية، بل إن هذا الانقسام يخدمهم في التهرب من مسؤولياتهم ومن الضغوط المفروضة عليهم ويحرّرهم من أي تنازل ممكن.
آخر أسلحة الدبلوماسية الإسرائيلية كانت اللجوء منذ أيام إلى إقرار مشروع قانون يلزم الحكومة الإسرائيلية بإجراء استفتاء شعبي قبل أي انسحاب إسرائيلي من أراضٍ محتلة.
والمراد طبعا من إقرار هكذا المشروع، التحصّن ببعد شعبي يدعم التعنّت الحكومي بعدم الاستجابة للضغوط الأميركية والمطالب العربية.
ومن شأن هذا التشريع أن يفرغ أي مفاوضات مستقبلية أو أي قرار دولي أو حتى إسرائيلي بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، إذ سيتم التحجج بوجود أغلبية شعبية معارضة للانسحاب، وبالتالي نقل الضغط من الجانب الإسرائيلي إلى الجانب الفلسطيني والعربي باتجاه دفعه إلى تقديم المزيد من التنازلات والتراجعات.
يحسب للرئيس أوباما وعلى العكس من الرؤساء الأميركيين السابقين أنّه تحرّك منذ توليه لمنصبه، وإن لم يكن قد توصل إلى أيّة نتائج تذكر بعد، ومن غير المعروف ما إذا كان قادرا أصلا على تحقيق أية نتائج في هذا الإطار.
لكن الوضع الإسرائيلي يعطينا مؤشر بتعرّضه لضغوط كبيرة، لكن المطلوب أن تبقى هذه الضغوط الأميركية موجهة إلى الجانب الإسرائيلي وأن تزداد وان لا تتحول باتجاه الفلسطينيين أو أن يتم فقدان الأمل وبالتالي إعطاء الحرية لـ «إسرائيل» في غيّها ومماطلتها.
هناك الكثير من التجارب التاريخية التي تشير إلى أنّه وعند التضارب بين مصالح الأمن القومي الأميركي وبين مصالح «إسرائيل»، فإن واشنطن تدافع بشراسة وقوة عن أمنها القومي حتى وإن تطلب ذلك إجبار «إسرائيل» الحليف الاستراتيجي على التراجع واتخاذ خطوات لا يحبّذها.
في العدوان الثلاثي على مصر على سبيل المثال، أجبرت واشنطن الحكومة الإسرائيلية على الانسحاب والتراجع وقالت غولدا مائير في حينه بما معناه بأنّ القرار الأميركي أذل «إسرائيل» وأجبرها على فعل ما لا تريد.
وقد تكرر الأمر أيضا في عهد بوش الأب التي هدد «إسرائيل» بوقف المساعدات المالية والعسكرية المخصصة لها فما كان منها إلا أن لبّت طلبه.
صحيح أن الإدارة الأميركية لم تستعمل بعد كل الأوراق ولم تضغط بالشكل القاسي المفترض، لكن المطلوب عربيا تزويد أوباما بالأدوات التي يحتاجها أيضا في الضغط على «إسرائيل»، لا التفرج على جهوده ومن ثمّ القول إنه لم يغير شيئا.
ويمكن الإشادة في هذا الإطار بالتحرّك الأوروبي الأخير سواء عبر المشروع السويدي الذي طرح مؤخرا أو عبر بيان المجلس الأوروبي حول عملية السلام والاعتراف بالقدس ورفض قيام «إسرائيل» بفرض أمر واقع عبر تغيير الوقائع على الأرض وتهجير الفلسطينيين وإقامة المستوطنات وتغيير التركيبة السكانية للقدس، والذي يصبّ أيضا في دعم المجهود الأميركي خاصة أنّ العديد من التقارير البحثيّة الأميركية الصادرة حديثا تعترف بضرورة حل القضية الفلسطينية وان لزم الأمر الضغط على «إسرائيل»، علما أن هذه التقارير تشير أيضا إلى إمكانية أن يتسبب هذا الضغط بمشاكل للرئيس أوباما في الداخل الأميركي ويعرقل بالتالي مسيرته وتقدمه سواء عبر اللوبي الصهيوني أو عبر أعضاء الكونغرس المواليين لتل أبيب.
* كاتب أردني، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2698 - الأحد 24 يناير 2010م الموافق 09 صفر 1431هـ