حتى العام 2005 كان المشروع النووي الإيراني يتطور بهدوء ومن دون افتعال الصراخ بشأن خطواته المتزنة. فالقيادة السياسية في طهران آنذاك كانت تدرك قوانين اللعبة لذلك اتجهت نحو السير «قرب الحائط» حتى لا تثير المخاوف أو تعطي ذريعة للولايات المتحدة و«إسرائيل» لشن حملة غاضبة ضد الملف.
المشروع النووي الإيراني الذي بدأت طهران بتأسيسه قبل عشرين سنة كان يتقدم من دون اضطراب لتلبية حاجات البلاد من طاقة سلمية تضمن سلامة النمو وتوازن الاقتصاد للأجيال المقبلة. ولهذا السبب اضطرت القيادة في عهدي هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي إلى اعتماد خطة طويلة المدى تتوقف احيانا حين تشتد الضغوط الدولية وتتواصل أحيانا حين تتوافر الظروف حتى تسحب الذريعة وتمنع تدويل الملف.
«إسرائيل» كانت آنذاك تعيش في حالات من القلق لأنها فشلت في إقناع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بأن المشروع النووي الإيراني ليس سلميا ويحمل في باطنه خطة سرية تطمح لتحويل المفاعلات إلى مصانع أسلحة تدميرية. والفشل الإسرائيلي تأتى بسبب عجز تل أبيب عن اثبات صحة تحليلها بالأدلة الدامغة.
حتى العام 2005 كان الملف النووي يسير لمصلحة الجانب الإيراني على رغم توقفه عن النشاط في العام 2003 بناء على تفاهمات مؤقتة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. والتجميد المؤقت وافقت عليه قيادة طهران آنذاك بقصد حماية المشروع وعدم إعطاء ذريعة للولايات المتحدة تشن بموجبها عليه هجمة لمحاصرته أو تقويضه.
«إسرائيل» كانت الطرف الوحيد إقليميا ودوليا الذي لا مصلحة لديه في تطور إيران النووي. لذلك كانت لا تتردد بالاتصال باللوبيات المناصرة لها وتحريضها على التحرك لنقل الملف من إطار الوكالة الدولية ورفعه إلى مجلس الأمن. وفشلت «اللوبيات» في إقناع دول الاتحاد الأوروبي وحتى إدارة جورج بوش في تقديم الأدلة التي تؤشر إلى وجود أجندة عسكرية سرية تخطط لبناء ترسانة نووية.
استمر الفشل الإسرائيلي إلى العام 2005، وهو موعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى منصب الرئاسة. وبعد هذا العام أخذت العجلة تدور ضد الجانب الإيراني ولمصلحة «إسرائيل» بسبب تلك التصريحات العنيفة التي أطلقها أحمدي نجاد مهددا تل أبيب بالحرق والكيان العبري بالدمار.
صواريخ أحمدي نجاد «البخارية» أعطت حكومة «إسرائيل» الذريعة لتأكيد وجهة نظرها وقيادة حملة دولية مضادة ضد الملف النووي الإيراني تحت ستار كثيف من الادعاءات. لم تكن تل أبيب تمتلك أدلة دامغة تؤكد وجود أجندة سرية عسكرية سوى قنابل أحمدي نجاد «الصوتية» التي تواصلت في تهديد «إسرائيل» بالحرق والدمار الشامل. فتلك التصريحات وصفها بعض المسئولين الإسرائيليين بأنها «هبة من السماء» وجاءت في توقيت مناسب ما أعطى صدقيه للادعاءات وفتح الباب أمام دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للتحرك والضغط إلى أن نجحت في نقل الملف من الوكالة الدولية إلى مجلس الأمن في نيويورك.
بعد العام 2005 دخل الملف النووي الإيراني في طور متخالف عن النسق السابق وتحول إلى موضوع نقاش وابتزاز أعطى فرصة لمراكز القرار في الولايات المتحدة في عهد بوش في تشكيل قوة ضغط دولية تصر على كشف تفصيلات المشروع وتشكك بكل ما يصدر من تطمينات من جانب طهران. فالتصريحات الغاضبة التي أطلقها أحمدي نجاد بشأن نفي المحرقة النازية ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من عقد مؤتمر دولي في طهران للتشكيك التاريخي بوجود محرقة ضاعف من تماسك الجبهة المضادة وقدم خدمات مجانية لتل أبيب ساعدها على تعديل مواقف ألمانيا وروسيا والصين تحت غطاء الخوف من وجود أجندة تريد حرق اليهود مجددا على غرار ما فعل هتلر في القرن الماضي.
تدويل الملف
أدت الضغوط الأميركية - الإسرائيلي إلى تشكيل قوة دولية تقاطعت مصالحها على كشف الملف النووي ووضعه تحت المراقبة الدائمة استنادا إلى كلام فضفاض أطلقه رئيس دولة لحسابات داخلية وجوارية. تل أبيب تدرك أن الكلام الفضفاض لا يعدل موازين قوى ولا يصنع سياسة ولكنه يساعد على تعزيز الذرائع واستخدامها أدلة دامغة لاثبات الادعاءات بوجود مخاطر من مشروع سري يطمح نحو حرق «إسرائيل».
منذ العام 2006 بدأت الاتجاهات الدولية تتغير لتصب في إطار مصلحة تل أبيب التي أخذت تضخم المخاوف وتثير زوابع الهلع مستفيدة من انتقال الملف إلى مجلس الأمن الذي توافق في 31 يوليو/ تموز على إصدار القرار الدولي الرقم 1696 من دون اعتراض روسيا والصين.
القرار الدولي الأول تحدث في العموميات ولكنه كان كافيا لوضع قنوات قانونية ترسم مسارات مبرمجة للملف النووي الإيراني الذي انكشف دوليا وانفضحت أوراقه بفضل تلك الخطابات النارية. البيان يعيد في مقدمته تأكيد التزامه بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية ويشير إلى حق الدول وفقا للمادتين الأولى والثانية من تلك المعاهدة في إجراء البحوث في مجال الطاقة النووية واستخدامها للأغراض السلمية.
تأكيد القرار على المسارين (المنع والحق) فتح الباب للدخول في مسار ثالث وهو الشك بوجود خطة سرية لدى إيران تخالف في الجوهر المعاهدة. وبناء على الظن أعرب مجلس الأمن في قراره عن قلقه بشأن البرنامج الإيراني واحتمال وجود مواضيع لها أبعاد عسكرية. وبناء على ذلك القلق طالب بتوضيح كل جوانب البرنامج النووي حتى تستعاد الثقة. وبناء الثقة يتطلب اعطاء فرصة للجهود السياسية والدبلوماسية بقصد التوصل إلى حل عن طريق التفاوض يضمن لإيران حقها في إنتاج الطاقة للأغراض السلمية مقابل كشفها كل تضاعيف المشروع.
أقحم القرار 1696 إيران في أربعة مسارات متوازية: الأول التذكير بالمعاهدة الدولية التي تمنع انتشار الأسلحة النووية. الثاني الإشارة إلى حق الدول في إنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية. الثالث التنبيه إلى وجود نوع من الشك الذي يثير المخاوف والقلق من أجندة سرية. الرابع فتح الباب للتفاوض السياسي والدبلوماسي حتى تتوصل القوى المعنية إلى تفاهمات تمنع من جانب وتعطي الحق من جانب.
المسارات الأربعة المتوازية تضافرت قانونيا لتشكيل مظلة دولية تحت سقف المادة 40 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يعطي صلاحيات للتدخل والطلب من إيران بوقف جميع أنشطتها المتصلة بالتخصيب وإعادة التجهيز بما في ذلك البحث والتطوير.
المادة الثانية من القرار 1696 حددت الشروط الدولية ورسمت الطريق الذي أخذ يتطور ويتصاعد بعد انتهاء كل مهلة زمنية. فالمادة طالبت بوقف جميع الأنشطة للتأكد من صحة البرنامج النووي عن طريق التفاوض وبما يكفل حق إيران في إنتاج الطاقة للأغراض السلمية. حتى تكسب طهران هذه الضمانات الدولية المشروعة لابد لها من الامتثال لشروط التوقف. وعدم الامتثال في موعد حدده مجلس الأمن بتاريخ 31 أغسطس/ آب 2006، يعني العودة إلى اتخاذ تدابير ملائمة بموجب المادة 41 من الفصل السابع.
قيادة إيران رفضت الامتثال كما هو معلوم على رغم أن فقرات القرار لا تنص على منع طهران من مواصلة مشروعها السلمي. فالنص واضح في فقراته وتحديدا ذلك الحق المشروع في إنتاج الطاقة السلمية وهو جانب تكرر مرارا في صيغ مختلفة في القرار تؤكد على الاحترام المتبادل و«بناء الثقة الدولية في الطبيعة السلمية الخالصة لبرنامج إيران النووي» (المادة الرابعة).
الرفض أعطى ذريعة قوية للوبيات المؤيدة لـ «إسرائيل» لمواصلة التحريض على وجود أجندة سرية غير سلمية، كذلك قدم أدلة ظنية على وجود نوايا تخطط لحرق اليهود وتدمير تل أبيب. واستمر الأخذ والرد إلى أن مضت المهلة القانونية في نهاية أغسطس 2006 ليصدر القرار الثاني في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2006 الذي تضمن فقرات أقوى واشتمل على تفصيلات أكثر ما وضع الملف النووي الإيراني للمرة الأولى تحت الخطر ودائرة الشك الدولي.
القرار 1737 حمل في طياته الكثير من النقاط الجديدة والخطرة لما تضمنته من تفصيلات تجاوزت حدود العموميات والحق العام لتؤشر إلى وجود خريطة طريق تعين الأهداف والغايات في حال اتجه الملف في سياق غير سلمي. وهذا الموضوع يحتاج إلى قراءة أخرى
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2697 - السبت 23 يناير 2010م الموافق 08 صفر 1431هـ
عليك نور
من كانوا يسيرون قرب الحائط يا عزيزي جعلوهم في محور الشر في العام 2002 ومن تعتقد انهم اصحاب صواريخ بخارية حاورهم الامريكان في العراق وافغانستان