العدد 269 - الأحد 01 يونيو 2003م الموافق 30 ربيع الاول 1424هـ

واشنطن: الأيديولوجيا والمصالح

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كيف يمكن فهم تعارضات السياسة الأميركية ومحاولات إدارتها التوفيق ما بين المصالح الاقتصادية والأيديولوجيا الأصولية المسيطرة على «البنتاغون» و«البيت الأبيض»؟

لا شك في أن هناك اضطرابات في منهج الربط بين التوجهين. وهذه الاضطرابات تعبّر عن نفسها في تخبط التصريحات اليومية التي تصدر عن هيئات أو مسئولين تشير إلى توجهات غير متفقة على مواقف محددة. فالكل يتعارض مع الكل. والبيت الأبيض تحول إلى ما يشبه الأسرة المشاغبة التي تنساق وراء أهواء غير منسجمة بسبب فقدان الأب والأم سيطرتهما على العائلة.

والسؤال: من يوجه السياسة الأميركية، وتحديدا ما هو الميزان الذي تزن به الإدارة قراراتها، وما هو المحدد الذي يصوغ تصريحاتها وعلاقاتها الدولية؟

سابقا كان هناك معيار أساسي وهو المصالح الاقتصادية. فالمصالح كانت تحدد التوجهات والتصريحات حتى لو كانت أحيانا على حساب قناعات أيديولوجية ومبدئية تدين بها هذه الإدارة أو تلك. فالمصالح كانت الأساس وكل ما يتفرع عنها هو مجرد تفاصيل لا تغير من جوهر السياسة العامة. وإذا استثنيت «إسرائيل» من القاعدة لأسباب كثيرة منها الداخلي ومنها الخارجي انسجمت التوجهات الأميركية إلى حد ما مع مصالحها الاقتصادية طوال الخمسينات والستينات وصولا إلى العقد العاشر من نهاية القرن الماضي. «إسرائيل» كانت دائما الاستثناء وغير ذلك شكلت المصالح قاعدة الانطلاق لكل السياسات العامة للولايات المتحدة في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا. ففي مختلف القارات حتى تلك العلاقات الشائكة والمتداخلة في الأوروبيتين الشرقية والغربية كانت المصالح الاقتصادية هي المحدد الرئيسي لمختلف التوجهات. وعلى هذا اتسمت السياسة الأميركية العامة بالانسجام والبرغماتية باستثناء دائرة صغيرة وخطيرة من العالم عرفت سابقا بالشرق الأدنى وحاليا أطلق عليها مجازا بالشرق الأوسط.

وبسبب تلك المصالح لجأت البرغماتية الأميركية مثلا في الدول اللاتينية إلى معارضة التوجهات الديمقراطية وراهنت على «الجيوش» كوسائل ضبط للمصالح وحماية للدول المؤيدة لواشنطن من غضب الناس. وبسبب تعارض المصالح مع الأيديولوجيا مالت إدارات البيت الأبيض إلى تشجيع أو دعم الانقلابات العسكرية إذا وجدت في «صناديق الاقتراع» ما يشير إلى وجود غالبية غير مؤيدة للهيمنة الأميركية.

الأمر نفسه كررته في بعض دول آسيا إذ راهنت على دعم الانقلابات العسكرية والجنرالات وأحيانا الاستبداد في كل ألوانه وأنواعه لأنها وجدت في تلك الأدوات قوة مسلحة قادرة على حماية مصالحها من النفوذ الشيوعي المدعوم سوفياتيا أو صينيا.

ولم تكن سياسات واشنطن في إفريقيا والخليج وغيرها مخالفة لتلك التوجهات العامة في مختلف المناطق. دائما كانت الإدارات الأميركية تغلب المصالح على الأيديولوجيا معتبرة الأخيرة مجرد عناوين للسياسة وليست أساسا للعلاقات.

الآن وبعد جملة التطورات الدولية التي شهدها العالم منذ حرب الخليج الثانية (1990 ـ 1991) وانهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي تبدلت التوجهات وأخذت تنمو الأيديولوجيا على حساب المصالح. وترافق الاختلاف مع نمو نزعة تدفع الدولة الأميركية نحو الهيمنة والتمدد الخارجي انطلاقا من سلسلة قواعد تشير إلى وجود مفاهيم متشددة تنظر إلى العالم من خلال أطر عقائدية.

والسؤال: إلى أي حد تستطيع الولايات المتحدة أن تستمر في سياسة تغليب الأيديولوجيا على المصالح واعتبار الاقتصاد مجرد ملاحق للأساس العقائدي في صوغ العلاقات الدولية مع أوروبا وآسيا و«الشرق الأوسط»؟

لا شك في أن الاستمرار في دفع أيديولوجيا الهيمنة والتمدد (المغلفة بأصولية إنجيلية متشددة) إلى واجهة الصدارة والقيادة في قراءة العالم ومصالحه سيؤدي في النهاية إلى المزيد من الاضطرابات وربما الفوضى العالمية. فالدفع الأيديولوجي المتشدد المتسلح بالأصولية والجيوش المحاربة يعني عمليا المزيد من التورط في الحروب والمعارك وبالتالي السير في خط سياسي ينتهي في ساحة اصطدام الحضارات وهو أمر خطير وشديد الحساسية لأنه يمس ثقافات الناس وجوهر هوياتها الدينية والحضارية. فالاصطدام مع العالم في إطار أيديولوجي متشدد يعني فتح باب المعركة العامة على مصراعيه ونقل الصراع من دائرة السياسة إلى دائرة العقائد. والمعركة العقائدية في مضمونها الشامل لا تعني الدول فقط وهي لا تقتصر على الأنظمة والسلطات الحاكمة في آسيا وإفريقيا بل هي أساسا معركة ضد الناس وليس ضد الحكومات والحكام. فالتخلص مثلا من سلطة صدام حسين شيء والخلاص من عقائد الناس في العراق مسألة مختلفة. الأولى في غاية السهولة والثانية في غاية الصعوبة. وسهولة الأولى أنها معركة عسكرية وصعوبة الثانية انها معركة سياسية مفتوحة تطال الثقافة العامة التي هي في النهاية نتاج تراكم حضاري تاريخي ممتد على أكثر من 1400 سنة.

حتى الآن، وتحديدا في الشئون المتعلقة بقضايا «الشرق الأوسط» وتفرعاتها وخصوصية العلاقة الأميركية مع «إسرائيل»، تبدو السياسة الأميركية مضطربة في منهج الربط بين التوجهين: الأيديولوجي والاقتصادي. فمرة تغلب المصالح على الأيديولوجيا ومرات الأيديولوجيا على المصالح. إلا أن الولايات المتحدة في سلوكها العام لا تستطيع أن تستمر إلى وقت طويل في تغليب الأيديولوجيا على المصالح كما هو حاصل في أيامنا، لأن مثل هذا النهج يضع واشنطن في خط تعارض كلي مع شعوب المنطقة لا أنظمتها فقط... الأمر الذي سيزيد من الصعوبات التي تواجهها تلك الحلقات العربية القريبة من التفكير الأميركي. فحتى أقرب المقربين من «البنتاغون» لا يستطيع الدفاع عن المصالح الأميركية وتبرير سياساتها الأيديولوجية. فالأيديولوجيا في النهاية تساعد على حشد الجيوش إلا أنها تعطل إمكانات إعادة تنظيم المصالح في لحظات الهدوء والاستقرار

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 269 - الأحد 01 يونيو 2003م الموافق 30 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً