لقد أثار التقرير الإستراتيجي البحريني الثاني الذي أصدره مركز البحرين للدراسات والبحوث تغطية إعلامية واسعة، كما أثار تساؤلات متعددة وكلها مقبولة ومرحب بها. ولكن في تقديري كباحث ومراقب من بعيد، فإن بعض ردود الفعل لم تكن على المستوى المتوقع، ولعلي أشير لمجموعة من الملاحظات المنهجية بصفة شخصية كباحث مبتدئ يسعى للتعلم في مجالات العلوم السياسية، وبخاصة ما يسمى بدور المثقفين وبالحراك السياسي المجتمعي باعتبار أن ذلك جزء مهم ورئيسي في فلسفة السياسة وفي النظرية السياسية.
الملاحظة الأولى:
إن كثيرين تحدثوا عن المشكلة التي طرحها التقرير حول تغلغل الطائفية ومخاطرها على استقرار المجتمع وتقدمه. ولكن من كتبوا لم يتعمقوا في الرسالة التي رغب الباحثون في مركز البحرين للدراسات والبحوث نقلها بطرحهم هذه المشكلة والتي في تقديري هي رسالة متعددة الأبعاد.
أولها أن البحث العلمي لا يخاف ولا يهاب طرح المشاكل أيا كانت حساسيتها.
وثانيها إن البحث العلمي الموضوعي يطرح المشكلة أيا كانت المشكلة من زواياها المتعددة، ومن ثم فهو لم يقل إن المشكلة ناتجة عن عمل مجموعة أو فئة معينة، بل يتصور أن ذلك نتاج مجتمعي لعوامل التطور التقليدي من ناحية، ولـتأثير العوامل الخارجية من ناحية أخرى.
وثالثها أنه يطرح الرؤية والحل لهذه المشكلة على الأساس البدء في مواجهتها من خلال أدوار قيادات سياسية ودينية وتعليمية، وأولى خطوات المواجهة هي الاعتراف بوجود المشكلة، وثانيها التخلي عن الذات والإيديولوجيات والمواقف المسبقة عند البحث عن حلول، وثالثها الإيمان بالمبدأ الديني النابع من الفكر السليم الذي عبر عنه النبي محمد (ص) عندما فتح مكة بعد أن طرده منها أهلها وسألهم وهو المنتصر ماذا تظنون أني فاعل بكم فقالوا أخ كريم وأبن أخ كريم فكان جوابه «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
هذه المقولة مستمدة من نصوص القرآن الكريم التي تغلب التسامح وتجعل ثوابا عظيما لأصحابه على روح الثأر والانتقام.
أما التراث الديني الثاني فهو المستمد من مقولة السيد المسيح عليه السلام للحواريين عندما جاءت امرأة ساقطة وهالهم أن يتحدث إليها السيد المسيح، كما لو كانت من قيادات المؤمنين فقال قولته المشهورة «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر» وقوله «عجبي لمن يرى القذئ في عين أخيه ولا يرى الخشبة التي في عينه».
وفي السياق الأدبي استشهد التقرير بمقولة للروائي التشيلي الحائز جائزة نوبل للأدب عام 1971 وهو بابلو نيرودا (1904-1973) عندما قاتل من أجل القضاء على الطائفية في وطنه بنشر المحبة واعتبار أن الأدب والسياسة صنوان يكمل بعضهما بعضا، وقال مقولته مخاطبا أو ناصحا مواطنيه «إنني أحبك دون أن أعرف كيف ومتى ومن أنت ومن أين أنت» إنني أحبك بطريقة مباشرة وبسيطة دون تعقيدات أو كبرياء. وهكذا فإنني أحبك لأنني لا أعرف طريقة أخرى.
وأضاف مؤكدا منهجه ونتيجة هذا المنهج وموجها النصيحة العملية لمواطنيه «إنه يمكنك قطع كل الزهور ولكن لا يمكنك منع قدوم الربيع».
وهي ملاحظة تتعلق ببعض المثقفين والسياسيين في مجتمعاتنا العربية، وهي أنهم يعيشون في نقد الآخر ويتغذون على توجيه الاتهامات وفضح النقائض، ويرون دائما النصف الفارغ من الكأس ولا يرون النصف المملوء.
ومن هنا فإن البعض استطرد في العام الماضي في الإشارة للتقرير الإستراتيجي الأول أنه أهمل كذا من الموضوعات وعندما تطرق التقرير الثاني للعديد من الموضوعات ذات الأهمية وذات الحساسية، حظى بعرض إعلامي دون تحليل وتعمق في مختلف فصوله وأطروحاته.
وكباحث يسعى لاتباع المنهج العلمي، كنت أتصور أن تعقد عدة ندوات تناقش التقرير مناقشة علمية موضوعية، وتبرز دور مركز البحرين للدراسات والبحوث كمركز للبحث الإستراتيجي المهموم بقضايا مجتمعه حتى ينير الطريق أمام الباحثين والمفكرين وأصحاب القرار والمثقفين بعيدا عن الانحياز لهذا أو ذاك.
وأنا أدرك أن بعض المقالات أو فلنقل كثيرا من المقالات أشادت بالتقرير ولأصحابها الشكر، ولكن الأهم هو الأخذ بالاطروحات التي قدمها، وعبر عنها ليس فقط في قضايا سياسية، وإنما أيضا في قضايا البيئة والتنمية والحراك الاجتماعي وقضايا المنطقة وأثرها على مستقبل البشرية، وفي مقدمتها البحرين كدولة جزرية صغيرة تواجه تحديات البيئة ومخاطرها.
هي أن بعض الكتاب والصحافيين يأخذون الكتب، ومنها التقرير الإستراتيجي ويقرأونه أو لا يقرأونه ولا يعيرونه انتباها في كتاباتهم وعروضهم لأحدث إصدارات مركز البحرين للدراسات والبحوث، ومن ذلك ودون ذكر أية أسماء فإن معظم الكتاب - غير المحررين الصحافيين - لم يعلقوا في أعمدتهم عليه وكأنه لم يكن، بل إن صديقا أكن له كل الاحترام والتقدير قدم سردا للإصدارات في البحرين العام 2009 ولم يشر إلى أي إصدار من إصدارات مركز البحرين للدراسات والبحوث رغم أنه يتم إرسال العديد من الإصدارات له وإذا لم تصله هذه الإصدارات أو بعضها كان يمكنه أن يطلبها حتى بواسطة سكرتيرته والمركز يرسلها له مجانا حتى مكان عمله.
وختاما فإن التقرير الإستراتيجي البحريني الثاني ليس نهاية المطاف، بل هو بداية للبحث العلمي في قضايا المجتمع من وجهة نظر عدد من الباحثين من أبناء وبنات البحرين من خارج المركز ومن داخله، فهو يقدم رؤية موضوعية غير منحازة بقدر ما تكون الموضوعية وعدم الانحياز من سمات البشر فليست هناك موضوعية مطلقة في أية كتابة مهما أدعت العلمية في أي مجتمع من العالم لأن الباحث بشر يتأثر بتراثه الفكري وبمجتمعه وبالظروف المحيطة به وبما تعلمه من منهج علمي وثقافة، وبالمعلومات المتاحة له في لحظة كتابة بحثه أو دراسته.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2687 - الأربعاء 13 يناير 2010م الموافق 27 محرم 1431هـ