ثلاثة وسبعون عاما مضت منذ أن غادرت الحروب إلى غير رجعة بلادا درجت ثقافتنا الموروثة على تسميتها بدار الحرب. الآن ينعم الناس في أوروبا وأميركا وأستراليا واليابان وغيرها بالسلام... وهاهم اليوم يستقبلون العام الجديد بالاحتفالات، والأضواء والوجوه المستبشرة، وابتسامات الرضا وقبلات المحبة، متفائلين بإشراقات المعرفة الإنسانية، وثمار التنمية البشرية، ونتائج الأبحاث العلمية في ميادين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والاقتصاد والطب والفنون... إلخ، وفي هذا المضمار تراهم يتوثبون لتصحيح أخطاء السياسات، وتقليم أظافر من يخرج عن الجادة منهم حاكما كان أو محكوما.
ومن عجبٍ أن هؤلاء «الأغراب» تصفهم ثقافتنا العربية الإسلامية بالضالين، بل إن بعض المتطرفين منا يسمونهم الكفار! فهل ترى يعابثنا شيطان ماكر، بأن يقدم لنا هؤلاء «الضالين الكفار» في هذه الصورة الزاهية، بينما هم يعمهون في الظلمات دون أن نلاحظ؟! وإذ كان ذلك كذلك فلماذا نستبعد قيام ذلك الشيطان بتزوير رؤيتنا لأنفسنا، حيث يوهمنا بأننا نحن العائشون في دار السلام - لسنا ممن يقتلون بعضهم البعض، مقسما بأننا في عراقنا ولبناننا وفلسطيننا قائمون كالبنيان المرصوص تضامنا ووحدة، وحتى وإن بدا الأمر عكس ذلك أمام عيوننا، فلابد أن يكون العيبُ في عيوننا لا في وجودنا ذاته!
بيد أننا نعلم علم اليقين أن مثل هذا الافتراض محض هذيان، فالرصاصة التي تخترق الجمجمة، والقنبلة التي تمزق اللحم وتهشم العظم ليستا من صنع كائن ميتافيزيقي، ولا هما مجرد تصور، بل واقع كثيف صلد لا يُكَذّب. علينا إذن إن أردنا مع واقعنا تعاطيا أن نستبعد فكرة الشيطان الماكر، مثلما استبعدها من قبل الفيلسوف ديكارت رائد الشك المنهجي، وعلينا كذلك أن نبادر بالإقرار بأن مصيرنا رهن بما نفعله نحن بأنفسنا، وعلينا أيضا أن نتقبل الدواء المر المسمى بالديمقراطية، تلك التي تضع على كاهل كل فرد فينا مسئوليته عن مصيره، ومصير شعبه تبعا لقواعد بشرية خالصة، أولها أن الشعب، وليس غيره، هو من يضع التشريعات «المتغيرة» بتغير الأحوال، دون ركون إلى ثبات مفترض. وثانيها: أن لمواطني نفس الحقوق التي لي كاملة دون تمييز لأي سبب من الأسباب، وثالثهما أن مؤسسة الحكم تداوليةٌ بطبيعتها، يمارس السلطةَ فيها الحزبُ الذي يحوز ثقة أغلبية الناخبين، ويتخلى عنها طواعية إذا سحبوا منه تلك الثقة. وفي كل الأحوال فالأغلبية ثمة تعبير سياسي وليس توصيفا دينيا. فالمرء لا يغير دينه كل آونة دون مشاكل، لكنه يستطيع تبديل موقفه السياسي وقت يشاء لا يلومه على ذلك لائمٌ. وبقدر ما يتطلب الدين ثبات العقيدة، بقدر ما تحتاج السياسةُ للتعديل، وللعدول عن التعديل، وللعدول عن العدول.
يترتب على هذا الفهم أن تكون الديمقراطية، بهذه الخصائص، هي ما يفرق بيننا نحن العرب، وبين المجتمعات الغربية (وليس مجرد تسمية بلادنا بديار السلام وبلادهم بديار الحرب هو ما يفرق) ولعل أبناء تلك المجتمعات قد رضعوا معنى هذه الديمقراطية مع لبن الأمهات، أما نحن فمازلنا عاجزين حتى الآن، ولأسباب تاريخية واقتصادية وثقافية - عن التعامل معها كفلسفة جديدة (نحن نمقت الجديد من حيث كونه ضلالة، وكل ضلالة في النار) فهي بالنسبة لنا حلٌ «مستورد» ذو طعم غير مألوف، لا الحكام يستسيغونه ولا المحكومون قادرون على سداد ثمنه، وإن أعلن الجميع استعدادهم لتجربته من باب الاستجابة للضغوط الخارجية!
فأما الحكام فقد رأوا أن الانتخابات - وحدها - هي الديمقراطية، فهي غطاء رأس معقول، يمكن تحمل تكلفته «إداريا». وأما المحكومون فقد توهموا أن غطاء الرأس هذا كافِ لملء البطون، واستعادة أمجاد الماضي الذهبي... مادمنا ننتخب بأنفسنا المستبد العادل، الذي سيهزم لنا ديار الحرب، ويأتينا - مثل السيد البدوي - بأسرانا معززين مكرمين!
تنطبق بامتياز النظريةُ السابقِ عرضها على تنظيم حماس وعلى الجماهير الفلسطينية التي صوتت لصالحه في 25/1/2006 فقد اعتمد هذا التنظيم على الغضب الجماهيري المتصاعد جراء المماطلة الإسرائيلية والأميركية في تنفيذ استحقاقات اتفاقيات أوسلو. ومع استمرار تدهور الوضع السياسي العام، والفساد المتزايد داخل السلطة الفلسطينية؛ أخذ اليأس بتلابيب تلك الجماهير إلى درجة أن غم عليها أن العيش في العالم المعاصر (بكل تعقيداته، ونسبية معاييره) لاغرو يختلف نوعيا عن بساطة العيش في عوالم التاريخ الماضي بشروطها الواضحة نسبيا... حيث كان العدل والظلم، الصواب والخطأ، القريب والغريب، العدو والصديق تحدد جميعا بأحكام شبه مطلقة. ومن هنا فقد وجدت هذه الجماهير نفسها مسوقة للسير وراء تنظيم راديكاليّ ذي بعد واحد يرفع شعارات دينية في جوهرها، لا تكتفي بمقاومة المحتل لحد تحرير أرض الوطن، بل تذهب إلى طلب محاربة هذا العدو (= اليهود) وحلفائه (= النصارى) في كل مكان، بموجب أيديولوجية أرسى دعائمها سيد قطب واحتضنها نظريا الأخوان المسلمون، وقام بتنفيذها دمويا تنظيم القاعدة.
ومن هنا فلقد أصرت حماس على عدم الاعتراف باتفاقيات أوسلو، حتى بعد أن شكلت حكومة وحدة وطنية بالاشتراك مع فتح المعترفة بإسرائيل! فكان طبيعيا أن يقودها هذا الموقف الأيديولوجي - المستقيم في حد ذاته - إلى الانقلاب على السلطة الوطنية بعد أشهر قلائل من اتفاق مكة الهش لاسيما بعد أن استبانت أنها - وهي المنتخبة من الداخل الشعبي - لا يمكنها الحصول على الشرعية من الخارج جراء رفضها للقرارات الدولية ذات الصلة، ومن ثم فقد بات واضحا أمامها أن أية انتخابات قادمة لا ريب ستزيحها عن مجالس الحكم.
الانقلاب الحمساوي إذن كان تعبيرا عن نبذ المنظمة لمبدأ أصيل في الديمقراطية... هو مبدأ القبول بتداول السلطة، وقبل ذلك كان الإصرار على وضع المطالب الدينية في تصادم مع قرارات الشرعية الدولية، بما ينم عن عدم الإيمان بحق الشعب في التشريع لنفسه، وبحقه في تغيير ما شرعه حسبما تشير عليه به مصالحه المتغيرةُ في الزمان. أضف إلى هذا وذاك الغطرسة المتعمدة على مبدأ المواطنة، حيث ينص ميثاق حماس على أن «الأخوة» أعضاء منظمة التحرير قوم ضالون، وواجب حماس أن تهديهم - بالمعنى الديني - سواء السبيل، أما إذا لم يهتدوا فالحرب ثم الحرب، وقد جرى تطيبق هذا الفهم المرعب أيام الانقلاب وما بعدها من إعدام «الفتحاويين» بإلقائهم من أسطح العمارات، أو بسحلهم في الشوارع، أو بصيدهم برصاصات القناصة.
منذ صدور وعد بلفور العام 1917 والشعب الفلسطيني يجابه الحركة الصهيونية التي فرضها عليه الاستعمار البريطاني مجابهة الحمل للذئاب. وبتأسيس دولة إسرائيل صار على هذا الشعب البائس أن يناضل بالأيدي العارية لانتزاع حقه في إقامة دولته المستقلة على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 181 الصادر عام 1947، وحتى الآن مازال هذا الهدف قيدَ البحث. بيد أن النضال المستمر أسفر - مع ذلك - عن اعتراف دولي بالمسألة الفلسطينية قضية سياسية... لها ممثل شرعي وحيد هو منظمة التحرير الفلسطينية، وبواقع اتفاقيات أوسلو 1993 صار للشعب الفلسطيني سلطة وطنية تمارس صلاحيات الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة. من ناحية «إسرائيل» فلقد رأت - لأسباب استراتيجية - أن تنسحب من قطاع غزة، تاركة إياه - بخبث مدروس - ليكون مسرحا للصراع بين سلطة شرعية (منظمة التحرير) تسعى لإقامة دولة مدنية عصرية وبين تنظيم (حماس) يتطلع إلى خلافة إسلامية تضم العرب وسائر مسلمي الأرض من خلال حروب مستمرة تُشن على اليهود والنصارى في العالم أجمع! وهكذا جاء انقلاب حماس ليحول غزة إلى إمارة إسلامية... نموذجا مصغرا للدولة الدينية العالمية القادمة. فكان رد الفعل على هذا المشروع حصارا دوليا وإقليميا حول الإمارة الوليدة، ليتضاعف بذلك حجم معاناة شعبها الفلسطيني بما لا يقاس.
في هذا السياق تعبر مأساة حجاج غزة، العالقين الآن في البحر وفي الموانئ المختلفة، عن صعوبة مد يد العون لهم كضحايا لهذه الحكومة (المنتخبة بالشكل الديمقراطي!) ذات المرجعية الإسلامية! فاتفاقية المعابر الحدودية الموقعة في 15/11/2005 بين «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية ومبعوث الرباعية لا تسمح لمصر بإدخال فلسطيني واحد من معبر رفح في غير حضور ممثل الاتحاد الأوربي... ومن حيث أن الأخير منسحب منذ وقوع الانقلاب الحمساوي فلا أمل لهؤلاء الحجاج في العودة لبيوتهم، اللهم إلا إذا اتخذوا سبيل معبر كرم شاليم جنوب شرق محور فيلادليفيا... المعبر الذي تسيطر عليه كلية إسرائيل، وهذا ما ترفضه حماس تحرزا من وقوع كوادرها بأموالهم المجلوبة لدواعي النضال (ضد فتح؟!) في أيدي الإسرائيليين.
والنتيجة هي حلقة تعذيب ما يزيد على ألفي حاج مسلم لا لذنب إلا لكونهم خاضعين لحكمُ يلغي الاستحقاقات الوطنية لحساب أيديولوجية دينية، من شأنها تعذيب حتى المتدينين. ومع ذلك قامت مصر - التي هي دولة مدنية - بحل مشكلة ضحايا حماس على مسئوليتها منفردة. فهل كل مرة تسلم الجرة؟!
وهل يفيق مؤيدو الانقلاب - وقد ذهبت السكرةُ وجاءت الفكرةُ - على حقيقة أن الديمقراطية ليست مجرد فوز في الانتخابات وإنما هي ممارسة واقعية محليا ودوليا، و... بشروط محض دنيوية؟
* كاتب وباحث مصري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2675 - الجمعة 01 يناير 2010م الموافق 15 محرم 1431هـ