العدد 267 - الجمعة 30 مايو 2003م الموافق 28 ربيع الاول 1424هـ

دواعي التجديد والتحديث في التعليم

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

دعنا نتفق في البداية على أننا عندما نتحدث عن التجديد والتحديث في التعليم فإننا لا نتحدث عن الاصلاح التربوي. فالاصلاح التربوي يعني تغيرا شاملا وجذريا في كل مكونات العملية التربوية كجزء من/ وفي خط متواز مع تغيرات مجتمعية كبرى تطول السياسة والاقتصاد وكل العلاقات الاجتماعية والثقافية. بينما عند الحديث عن التجديد والتحديث في حقل اجتماعي فرعي كحقل التربية فإننا نعني إحداث تعديلات، تتراوح بين صغيرة وكبيرة، جزئية وشاملة، في الجوانب الفنية والادارية والمعرفية للعملية التربوية.

ومما لاشك فيه ان هناك حاجة إلى إصلاحات عميقة كبرى في كل مناحي الحياة العربية، في كل الأرض العربية، لكني هنا سأتحدث في الواقع الحالي الممكن وهو دواعي تجديد وتحديث التعليم العربي، فلعل حدوث هذا الأمر المطلوب كثيرا سيساعد ـ ولو جزنيا ـ محاولات البعض الدفع نحو الخروج من ازمة الوطن العربي المجتمعية الحالية الخانقة والانتقال الى المشروع النهضوي العربي الذي طال تأخر انبلاج فجره.

ما هي إذا دواعي اجراء تجديدات عميقة وشاملة في حقل التربية والتعليم في كل اجزاء الوطن العربي الكبير؟ أعتقد ان هناك ثلاثة عوامل كبرى تستدعي ذلك:

أولا: إننا نعيش عصر التغير السريع الدائم، واحيانا المفاجئ، في كل مناحي الحياة بسبب الاكتشافات العملية الهائلة التي تعكس نفسها بسرعة مذهلة في تطبيقات تكنولوجية وتنظيمية تتطلب من الانسان مواكبتها وفهمها واستعمالها بكفاءة من اجل ان يستطيع العيش في قلب عصره لا على هوامشه. إن العيش على هامش العصر سيعني ان يصبح الانسان من المهمشين الذين يعانون الضنك وقلة الحيلة. ولا تقتصر تلك الحالة على الفرد وحده وانما تنطبق كليا على المجتمعات والدول والاقاليم.

والنتيجة لتلك التغيرات هي ثورات متعاظمة شديدة في العلاقات الاقتصادية والانظمة السياسية والاجتماعية وفي السلوكيات الثقافية وفي انظمة التواصل المعرفية والاعلامية. وجميع تلك الثورات تنتج عن/ وفي الوقت نفسه تدفع دفعا نحو انتقال العالم من المجتمع الصناعي الى المجتمع المعلوماتي، من التكنولوجيا البسيطة الى التكنولوجيا العالية المركبة، من الاقتصاد القومي الى الاقتصاد الاقليمي والعالمي، من مساعدة المؤسسات للانسان الى اعتماده على الذات، من الاستقرار المالي الدولي النسبي الى الهزات العنيفة المدمرة، من الانسان المنتمي إلى/ والمحمي من قبل وحدة اجتماعية الى الانسان الوحيد المغترب ضحية قوى كبيرة، واحيانا خفية، لا يفهمها ولاتفهمه. واخيرا من سوق عمل ووظيفة تتصفان بالاستقرار والامان النسبي المعقول إلى أسواق ووظائف تتصف بالتغير الدائم في نوعيتها ومتطلباتها بحيث تموت الوظائف القديمة تباعا لتحل محلها وظائف جديدة بصورة دورية ولعدة مرات أثناء حياة الانسان الفرد.

ومع أن تلك الصورة المعقدة تنطبق كليا على المجتمعات المتقدمة فإنها تزحف بظلالها شيئا فشيئا على مجتمعات العالم الثالث النامية ومنها طبعا المجتمعات العربية.

ثانيا: إن ذلك الزحف ما كان ليتم بسهولة وبالسرعة التي نشاهدها لولا العامل الثاني المتمثل في ظاهرة العولمة، وعلى الاخص في شطريها الاقتصادي والثقافي حتى الآن. والتي على ما يبدو ستضيف قريبا الشطر السياسي بعد ان أصبحت الهيمنة السياسية على العالم ـ وعلى الأخص الوطن العربي ـ هدفا لليمين الاميركي المتطرف، يدفعه ويسانده يمين صهيوني اشد تطرفا منه وأكثر طمعا في الأرض العربية وثرواتها.

لقد أصبحت هذه الظاهرة قدرا لامناص منه. والحل لمواجهته يكمن في ممارسة انتقائية متوازنة لفرز العناصر الايجابية للاستفادة منها عن العناصر السلبية من اجل الاستغناء عنها. إن العولمة التي تحاول ان تبني عالما من دون دولة ومن دون أمة ستضع مسئولية ممارسة الانتقائية السالفة الذكر على كاهل الفرد نفسه، وهي مسئولية ثقيلة جديدة لن يقوى على حملها إلا إنسان جديد يستطيع التعامل مع مؤسسات لم يتعامل معها من قبل في وطنه، مؤسسات الشركات المتعددة الجنسيات، والتي لها مطالب وعقلية وانظمة بالغة التعقيد والخبث وغير مراقبة بما فيه الكفاية من قبل الدولة او قوى المجتمع. ان ساحة الصراع ستكون بين انسان فرد اعزل وبين مؤسسات عملاقة ذات قدرات هائلة على تهميشه واخراجه القسري من مجرى العصر العام المشترك بعد ان تنجح في محو ذاكرته التاريخية والقومية وتزييف وعيه الاجتماعي وفي فضله عن أمته، ووطنه.

ثالثا: هناك عامل ثالث يخص المجتمع العربي وحده ولكنه العامل الأهم الذي يتطلب التعامل مع اشكالاته البادئة بعملية تحديث وتجديد تربوية كبيرة وعميقة. هذا العامل الثالث يتمثل في تعثر ـ ان لم نقل ـ فشل المشروع النهضوي العربي بمكوناته الكبرى المعروفة وهي الوحدة العربية، والتنمية المستدامة المستقلة، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، والديمقراطية بكل انواعها ومكوناتها، والتحرر والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري وخصوصا في الثقافة والقيم والمعرفة.

إن نظرة سريعة الى واقع العرب اليوم يشير الى تعثر مفجع في كل مكونات المشروع التهضوي. بل هناك دلائل الى تراجع مقلق في بعضها.

فالوحدة العربية التي تهيأت لها ظروف مؤاتية في الخمسينات والستينات تراجعت اليوم الى امكانية تفتيت بعض أقطارها بل والى وجود خطر كبير حتى على رموزها المعنوية المتمثلة في الجامعة العربية ومؤتمرات القمة العربية.

والاستقلال الوطني والقومي يترنح اليوم أمام المشروع الاستعماري الاميركي الذي يحتل العراق ويسعى الى اعادة تشكيل المنطقة برمتها وامام ترسخ الاستيطان الصهيوني في الأرض العربية.

والتنمية العربية فيها تشوهات كثيرة وفساد مالي ينخرها. والعدالة الاقتصادية تتراجع في عصر الانفتاح والعولمة ليزداد الفقراء فقرا والاغنياء غنى، وتنسحق في طريق التلاشي الطبقة الوسطى. أما الديمقراطية فإنها في بداياتها، ومع انها حتما مطروحة بصوت عال فإنها تحت خطر سرقتها وتشويهها وتزييفها من القوى نفسها التي فعلت الأمر نفسه سابقا بالنسبة إلى شعارات القومية والاشتراكية والحرية. أما التجديد الحضاري فانه يتراجع امام التشنج الديني من جهة وامام التقليد والتبني الاعمى لاسوأ ما تفرزه المجتمعات الاخرى من جهة اخرى. ولاتزال الثنائيات المتواجهة والمتصارعة بين الاصالة والمعاصرة، وبين العالم والدين، وبين العقل والنقل، وبين الرجل والمرأة، وبين الانغلاق على الماضي والانفتاح على المستقبل... لاتزال تلك الثنائيات غير محسومة وبالتالي تمثل عوائق امام التجديد الحضاري الذاتي المطلوب.

وعلى رغم أن تعثر المشروع النهضوي كان نتيجة لعوامل خارجية وداخلية كثيرة، وعلى رأسها الفشل السياسي والتنموي الذريع للدولة العربية القطرية، فإن النظام التربوي يتحمل هو الآخر بعضا من تلك المسئولية.

إن هذا الوضع والقومي والوطني الصعب يتطلب توافر صفات في الانسان الذي يتعامل معه. من ابرز تلك الصفات:

1- توافر عناصر العقلانية الانسانية القائمة على التحليل العلمي الصارم والنقد الابداعي وتفكيك واعادة تركيب الافكار والنظرات والثوابت الخاطئة واللامجدية وتجاوزها الى ما هو افضل منها وارقي انسانيا. وهي عقلانية مغامرة من اجل الخلق والابداع، متحركة ومتفاعلة مع الغير ومنفتحة على كل جديد ولديها قدرة كبيرة على الشك مثلما على اليقين. ومن اجل ان تكون انسانية تحتاج هذه العقلانية الى الارتباط بمنظومة قيم رفيعة المستوى تؤكد العدل والقسطاس والرحمة والتسامح ونبذ الانانية والتمحور حول الذات والتعصب الاعمى واستئصال الآخر والغيبيات الاساطيرية التي لا سند لها إلا في خيال اصحابها.

2- الشخصية المشبعة بثقافة الالتزام تجاه المجتمع والأمة والوطن والبشرية. تلك الشخصية التي ترى الاخطار المحدقة بالامة فتقف ضدها وترفض الاستبداد فتقاومه وتلاحظ التوزيع غير العادل للثروة وتبذيرها فتقف مع ضحاياه وتعيش قلق وألم وأحزان الآخرين. إنها الشخصية المؤمنة فعلا والعمل على التغيير غير مكتفية بالبكاء والنواح والحسرة.

3- توافر المرونة الشخصية والتعليمية القادرة على سرعة التغير والتكيف مع مستجدات العصر المتلاحقة وعلى الاخص بالنسبة إلى متطلبات سوق العمل والثورة المعلوماتية والحياة المهنية. وهذه المرونة ستساهم في بناء الشخصية المنتجة الرافضة للبطالة المقنعة واستجداء فتات المجتمع الرعوي من عطايا ومكرمات.

4- توافر المقدرة على التمرد على القولبة التي هي سمة العصر الذي نعيشه على مستوى الوطن والعالم. إنها شخصية قادرة على التمرد على قولبتها من قبل مؤسسة الاعلان لدفعها الى ثقافة جماهيرية مسطحة وتفتيتية ومشوشة سواء لإفراغ السياسة من محتوياتها الانسانية او لتبرير كل انواع الظلم والقهر للانسان وبيئته، ومن مؤسسة الدين السياسية لدفعها الى ثقافة الخرافات والمسائل الهامشية بعيدا عن المقاصد الكبرى المستنيرة المنحازة إلى العقل والحرية والعدل.

رابعا: إن بناء تلك الصفات وغيرها، مثل التحرر من هيمنة أوزار الماضي لصالح المستقبل والقدرات على الانتظام والتنظيم والعمل المشترك، تنقلنا إلى العالم الرابع في دواعي التجديد التربوي المطلوب. وهذا العالم الرابع يتركز في الأزمة الخانقة التي يعيشها النظام التربوي ذاته. وطبعا فإن كل أوراق هذا المؤتمر ستتناول جوانب كثيرة من إشكالات النظام التربوي العربي. ولذلك سأكتفي بذكر الإشكالات المفصلية.

1- ثقافة القمع والتسلط في المنظومة التربوية: فالحكومة تقمع الوزير، الذي بدوره يقمع الجهاز الإداري والفني، اللذين بدورهما يقمعان المدرسة، التي تقمع المعلم، الذي يقمع التلميذ، الذي يتخرج فيقمع كل ما حوله. إنها حلقة مفرغة جهنمية. إن حلّ مشكلة العلاقات الديمقراطية الفكرية والإدارية والتعليمية في كل مستويات المنظومة التربوية أصبح قضيّة جوهرية تحتاج إلى حل.

2-المناهج والأساليب التعليمية والتقويم: التي ترسخ التعليم التلقيني البعيد عن حياة التلميذ وبيئته، غير القادر على التدريب على حل المسائل، غير المبني على المساءلة والتحليل وسبر الأغوار وإبداع الحلول، المكتفي بالكتاب المدرسي والمحاضرة، المحكوم بمتطلبات نظام تقويمي مبني على الفرز المصطنع وعلى استفراغ المعلومات البنكية وعلى التنافس الدارويني الأناني، المهمل إلى أبعد الحدود للتعلم الذاتي وكل الوسائل التي تخدمه.

3- القبول بأن يكون النظام التربوي وسيلة إعادة إنتاج: بل وترسيخ لثقافة المجتمع وعدم المساهمة في نقدها وتجاوزها وهو أمر عطل مهمة الحقل التربوي في أن يكون أحد أهم أدوات التغيير الثقافي والفكري في المجتمع، وأحد أهم مصادر المقاومة لكل الشروخات والمظالم والتزييف فيه وأحد أهم وسائل الحراك الاجتماعي للفقراء والمهمشين.

4- وبسبب وجود النقاط الثلاث السابقة انعكس الوضع على مهنة التعليم بشكل سلبي. فالمعلم لا يعدّ مهنيا، وإن تم ذلك فإنه لا يعد مثقفا ملتزما بقضايا المجتمع، وإن تم ذلك فإنه لا يسمح له بأن يكون أداة تغيير ودفع إيجابي لبناء شخصية التلميذ المتصفة بكل الصفات التي ذكرناها سابقا. ومع أنه أحد أهم بناة القدرات الذهنية والمسلكية والعاطفية والروحية لمواطني المستقبل فإنه مهمش مهنيا وماديا ومكانة اجتماعية ما يجعله يواجه الحرمان في كثير من متطلبات الحياة العصرية في الوقت الذي يرى في الآخرين من غير المستحقين يعيشون حياة الترف والبذخ.

إن تلك العوامل الأربعة تحتّم وتستدعي تغييرات جذرية في المنظومة التربوية حتى ولو لم ترافقها تغييرات مجتمعية أخرى. ذلك أن الطرق المؤدية إلى بناء إنسان عربي جديد أصبح تعبيدها ضروريا، ضرورة حياة أو تهميش، ضرورة مواجهة لأهوال سيأتي بها المستقبل القريب. فهل سيستطيع القائمون على التربية العربية قبول أن يكونوا رأس الحربة في إنقاذ المشروع العربي النهضوي المنتظر للإنسان العربي الجديد؟ نرجو ذلك

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 267 - الجمعة 30 مايو 2003م الموافق 28 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً