حين تبلغ جرأة الكراهية أقصاها فإنها إما أن تتحول إلى تهوّر مجنون وإما أن تنحطّ. وقد مرّت جرأة الكراهية الطائفية بين السنة والشيعة بكلا المصيرين، فانحطّت أخلاقيا، وانقلبت، في حقبٍ متعددة، إلى تهوّر دموي مجنون. وكثيرا ما جرى تمهيد أرضية عنف الكراهية الدموي بالانحطاط الأخلاقي لهذه الكراهية.
وقد عرفنا، في مقالة الأسبوع الماضي، أن رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب في «الرد على الرافضة»، لم تكن أول رسالة من رسائل الكراهية الموجهة ضد «الرافضة»، ولا هي أول رسالة لا يتورّع فيها صاحبها عن التشهير بالشيعة وسبّهم ووصفهم بـ «الكذبة» و»الفَسَقة»، ولا هي أول رسالة تلعنهم وتكفّرهم وتتوعّدهم بنار جهنم المُحرقة، ولا هي أول رسالة تبيح دماءهم وتحرّض على قتلهم جهارا نهارا. إلا أنها أول رسالة، فيما أتصور، تنحطّ في تاريخ حرب الكراهية القولية السنية ضد الشيعة إلى هذا القدر من الانحطاط الأخلاقي في لغة السباب والشتيمة والطعن والتشنيع، فصاحبها لا يتورّع عن قذف الشيعة أجمعين واتهامهم في طيب مولدهم ومنبتهم. وتبلغ جرأة هذا الشيخ المؤذية ومنقطعة النظير ذروتها حين يقرّر، وبلا أدنى تقوى أو تورّع، «أن الرافضة أكثر الناس تركا لما أمر الله وإتيانا لما حرمه، وأن كثيرا منهم ناشئ عن نطفة خبيثة موضوعة في رحم حرام، ولذا لا ترى منهم إلا الخبيث اعتقادا وعملا، وقد قيل: كل شيء يرجع إلى أصله» (رسالة الرد على الرافضة، ص16). وحين يجزم بأن «هؤلاء الإمامية خارجون عن السنة بل الملّة، واقعون في الزنا (...) فما أحقهم بأن يكونوا أولاد الزنا» (ص17).
تفتتح هذه الرسالة وهذا القذف الصريح مرحلة جديدة في تاريخ حرب الكراهية والاستفزاز المذهبي المتبادل بين السنة والشيعة، مرحلة أبرز ما امتازت به هو انحطاطها المروّع والفادح في أخلاقيات التخاطب والحجاج بين المختلفين، إلا أن أبرز انعكاساتها أن هذه الحرب لن تستمر، كما كانت، حربا قولية فقط، ولن تبقى، كما كانت، «عقيدة» في صدور «الشيوخ» والأتباع أو حبيسة مؤلفاتهم ورسائلهم فقط. فبعد المبايعة واتفاق الدرعية المُبرم في أربعينيات القرن الثامن عشر بين المحمدين: الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب، بعد هذا الاتفاق أَمَر هذا الأخير بالجهاد، وصار بإمكان «عقيدة الشيوخ» أن تتجاوز حدود الصدور وبطون المؤلفات والرسائل، وأن تُنفّذَ بحدّ «سيوف المحاربين». ابتدأ «الجهاد» في المدن والبلدات والبوادي القريبة من الدرعية، إلا أنه سرعان ما اتسع مداه فوصل إلى القصيم وحائل ونجران واليمامة والإحساء والقطيف وقطر والبحرين والكويت، ثم اتجه ناحية العراق، فابتدأ بالبصرة والسماوة في العام 1797م/1212هـ، وما لبث أن اتجه، بعد مرور عشر سنوات على وفاة مؤسس دعوة هؤلاء المحاربين ومعلن جهادهم، إلى مدن الشيعة المقدسة، حيث شنّ هؤلاء هجوما عنيفا على مدينة كربلاء في العام 1801م/1216هـ، وبالعنف ذاته هاجموا مدينة النجف في العام 1803م/1218هـ.
كربلاء، هذه المدينة المقدسة التي اهتزّت من هول الهجوم «الوهابي» الأول، هي ذاتها التي احتضنت الشيخ يوسف البحراني في العام 1756م/1169هـ بعد سيرة معذّبة طويلة تقاذفته خلالها المدن والبلدان من البحرين إلى كرمان إلى شيراز إلى قَصَبة فسا إلى الاصطهبانات إلى أن استقرّ به المقام في كربلاء، فبقي فيها حتى وفاته في العام 1772م. خمسة عقود مضت ومدينة كربلاء تحتضن الشيخ يوسف البحراني حيّا وميتا. إلا أن هذه المدينة سوف تهتزّ في العام 1801م على وقع خيول هؤلاء «المحاربين» الذين احتشدوا حول المدينة وقتّلوا «أهل بلد الحسين (...) في الأسواق والبيوت، وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين، وأخذوا ما في القبة وما حولها، وأخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت والجواهر، وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من أنواع الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك ما يعجز عنه الحصر، ولم يلبثوا فيها إلاّ ضحوة، وخرجوا منها قبل الظهر بجميع تلك الأموال، وقتل من أهلها قريب ألفي رجل» (عنوان المجد في تاريخ نجد، ج:1، ص257-258).
جرى كل هذا التدمير المروّع بجوار قبر الشيخ يوسف البحراني الذي اهتزّ كما اهتزّت كامل المدينة وأضرحتها المقدسة، وفي الوقت الذي كانت فيه كربلاء مسرحا لهذا التدمير، كانت البحرين، وطن الشيخ يوسف البحراني الأول ومسقط رأسه، مسرحا لتدمير ثنائي (إباضي/ وهابي)، وقد ذهب الشيخ حسين آل عصفور ضحية هذا التدمير المزدوج، والشيخ حسين آل عصفور هو أكبر مرجع ديني بحراني عرفته البحرين بعد وفاة عمّه الشيخ يوسف البحراني. فهل كان كل هذا التدمير الذي استهدف مسقط الرأس (البحرين) وموضع القبر (كربلاء) انتقاما «وهابيا» متأخّرا من الشيخ يوسف؟ ولِم لا؟! ألم يتولّ هذا الشيخ مهمة الردّ غير المباشر على حرب الكراهية القولية المؤذية التي انحطت أخلاقيا منذ رسالة «الرد على الرافضة» للشيخ محمد بن عبدالوهاب، مؤسس عقيدة أولئك المحاربين الذين زلزلوا كربلاء والبحرين والنجف؟ من المؤكد أن الهجوم «الوهابي» الأول على كربلاء لم يكن بغاية تدمير قبر الشيخ يوسف البحراني على وجه التحديد، ولكن لو علم هؤلاء المحاربون الغلاظ أن في الرواق الحسيني قبرا لفقيه شيعي بحراني شنّع على إمامهم وطعن في طهارة مولده، واتهم جميع «المخالفين» - وهم في مقدمتهم - بهذه التهمة الشنيعة، لما أعاقهم عن تدمير قبره عائق، ولاستخرجوا جثمانه الطريّ من قبره ومزّقوه بأسنانهم وسيوفهم شرّ مُمزَّق.
نحن هنا أمام حوادث من الكراهية العنيفة والدموية والتي جرى تمهيد أرضيتها بخطابات، ردود وردود مضادة، هي على درجة كبيرة من الانحطاط والوضاعة في لغة التخاطب والحجاج والاحتجاج، وهذا انحطاط لم تعرفه هذه الحرب من قبل، وعلى الصعيد السني على وجه الخصوص. وسوف أعود، في مقالات مقبلة، لقراءة هذا الانحطاط ومدلولاته الخطيرة في سيرة هذه الكراهية المشتعلة بين المذهبين الإسلاميين الكبيرين منذ القرن الثالث الهجري. بيد أن صورة هذا المنعطف وانحطاطه لا تكتمل إلا بوضع خطابات هذين الشيخين المتجايلين وجها لوجه، والزجّ بها في مواجهة يدّمر فيها كل واحد منهما انحطاط الآخر. تلزمنا، إذن، العودة إلى ردّ الشيخ يوسف البحراني غير المباشر على «رسالة الرد على الرافضة» للشيخ محمد بن عبدالوهاب. أقول «غير مباشر» لأني لست واثقا من اطلاع الشيخ يوسف البحراني على رسالة «الرد على الرافضة»، بل لست على علم بما إذا كان الشيخ يوسف البحراني قد سمع حتى باسم «محمد بن عبدالوهاب» في زمانه، هذا على الرغم من إقامة هذا الأخير في البصرة مدة من الزمن، وقيل إنه طاف بهمدان وقم وأصفهان. ومع هذا فإن ما يقرّره الشيخ يوسف البحراني من طعن في نسب «المخالفين» وتشكيك في طيب ولادتهم يمكن أن يُقرأ على أنه ردّ على رسالة «الرد على الرافضة». وبهذا يتقابل هذان الشيخان، وتتواجه خطاباتهما المتخاصمة التي لا يجمع بينها سوى أنها خطابات في غاية الأذى والاستفزاز والقبح من القول والتحريض على الكراهية. وسيكتب لهذه الخطابات أن تكون من أهم الأسلحة المستخدمة في حرب الكراهية المتبادلة الدائرة بين الفريقين حتى الوقت الراهن.
وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2664 - الإثنين 21 ديسمبر 2009م الموافق 04 محرم 1431هـ