«بيننا قدر مشترك»... قال هالابوا، هذا الأستاذ الجامعي الحكيم في مركز أبحاث «الشرق والغرب» من هونولولو، ومستشار الملك في مملكة صغيرة تتكون من بضعة جزر ويسكنها مئة ألف تقع في المحيط الباسيفيكي - شرق أستراليا - هي مملكة «تونجا»، وهي على صغرها عضو في الأمم المتحدة (على قدم المساواة مع عضوية الصين في الجمعية العامة).
كان هذا منذ عدة أيام حين اجتمع في القاهرة أربعون باحثا من مصر والبرازيل وبيرو وفنزويلا وكاليفورنيا وكندا وهولندا وبريطانيا وروسيا والصين والهند وإيران ونيبال وجزر الكاريبي وجزر الباسيفيكي وإثيوبيا والكونغو وكينيا ونيوزيلندا.
كان موضوع النقاش هو الديمقراطية العالمية، كيف نبني هذا المفهوم، هل من أسفل لأعلى، أي نؤسس أنظمة أكثر عدالة وشورى ثم حين تنتشر تلك الأنظمة سيؤدي الأمر لديمقراطية عالمية، أم نؤسس نظاما دوليا عادلا وتمثيلا متوازنا للأمم وبهذا يتم إصلاح الخلل في نظم الاقتصاد والقانون الدولية ومن هنا يرتفع سقف التحول والتغيير في دول العالم الثالث فيمكن تسهيل حركة التغيير في الداخل في كل دولة، وهو التغيير الذي تعوقه المصالح المباشرة للنظم المهيمنة على الساحة الدولية.
حين تحدث الحكيم هالابوا ونحن نناقش في القاعة قضايا العولمة كنا في العالم الإسلامي على مشارف ذكرى الهجرة، يفكر عقلي في الجمع بين مشكلات المناخ وأزمة النظام الدولي وعدم عدالة التمثيل في الأمم المتحدة ومجلس الأمن وإسقاط الديون عن دول جنوب الصحراء في إفريقيا، ويتأمل قلبي في دروس الهجرة وما تحمله لنا من عبر.
كانت الأيام السابقة عصيبة حين خاضت مصر حرب البسوس مع الجزائر بسبب مباراة للكرة، وانقسم الناس وامتاز المجرمون من الطرفين يسبون ويخرجون أسوأ ما في جعبتهم ضد القومية العربية والأخوة الإسلامية. كانت أياما عصيبة تساءل المرء فيها «أليس منكم رجل رشيد»!.
كان اول ما خطر على قلبي هو أننا نحتاج أن نهجر قضايانا الصغيرة الفرعية التي تعوق نهضتنا وننفر للتفكر في العالم، كيف نصلح واقعنا ونتعلم في هذه الأثناء دروسا من حضارات أخرى، وكيف نحمل رؤيتنا للعالم فيكون عندنا ما نقدمه لهم عبر الاختلاف والتنوع.
نحتاج أن نفكر في هجر الرجز كما أمر الله رسوله في سورة المدثر، تلك الأوثان التي تعبد من دون الله وأخطرها وثن العصر وهو الهوى والذات الفردية، ونتعلم الرسالية والصبر على نهج الاستخلاف والعمارة؛ لأن الانغلاق في دوائر الذات سهل وتكلفته بسيطة، لكن الوعي بثقل أمانة الاستخلاف والسير بها لأقصى أطراف العالم مهمة عسيرة لا يقدر عليها إلا من يملكون اليقين وتنبسط أمامهم المساحات وتقصر المسافات لأنهم يرون العالم قرية صغيرة.
على الشبكة العنكبوتية بحثت عن معلومات عن تونجا، هناك في أقصى الشرق الجنوبي تتناثر جزر منها تونجا، يسكنها مئة ألف ينقسمون بين ثلاث طوائف مسيحية، أي أن هناك ثلاث حملات تبشيرية ذهبت منذ ردح من الزمان، لم يرد اللاحقة عن الذهاب وجود السابقة، فلماذا لم يهاجر رجل منا سعيا لأقصى المعمورة كما فعل آخرون فوصلوا لأقصى حدود الصين وتجولوا في جزر شرق آسيا، هاجروا بحثا عن الرزق ونشرا للدعوة، ليقيموا شعائر الله ويشهدوا منافع لهم، هاجروا في العصور الأولى... إلى ربهم. مفهوم الأرض الواسعة لم يكن هربا من ظلم بعد أن جاء نصر الله والفتح بل جهاد الفرد لينشر كلمة الله ويحقق شروط العمارة والاستخلاف، فردا عبدا ربانيا يسير على هدى إلى أبعد نقطة.
الهجرة إذا نقيض القعود، وتأمل ورود لفظ القعود في القرآن، والنفير همة، والسعي فريضة، وأن نسير وننظر ونتفكر أمر إلهي نسيناه.
الهجرة ليست فرارا، الهجرة قرار، متى نترك الأرض لمساحة أوسع من العالم، وكيف نبني النموذج ليعود ويفتح الأرض التي منها هاجر.
الهجر أيضا له دلالات معنوية ونفسية، فهو عقوبة لمن يخالف المنهج في داخل الجماعة، أو يخاف الخلق القويم في داخل علاقة ورابطة الميثاق، وهو عزيمة يفارق بها المسلم المعصية حين تتحول لمنهج حياة، فيعود أوابا لربه تائبا منيبا، يهجر المعصية وأهلها، ويصبر نفسه مع الإيمان وأهله.
الهجر سر قلب، وخشية رب، ونهج أدب... والهجرة هي فرار إلى الله من الذنوب كلها... إليه وحده.
وبعض الهجرة من الأرض خطيئة، حين يلزم الرباط والمصابرة، وبعض البقاء معصية، حين يجد المؤمن أرضا خصبة تنتظر غيثه فيتكاسل عن الخروج ويركن للعادة والإلف والراحة.
عالمنا واسع، والهجرة ألوان، والسعي طرق ومسارات، وكل مسخر لما خلق له، والرسالة نور يجدر بصاحبها أن يحملها لأركان الأرض، يمشي في جنبات كون الله الواسع، بنور ربه.
أحن إلى رسول الله في ذكرى الهجرة، أشفق عليه خارجا من مكة يناجيها ويبثها حبه، مصطحبا أبا بكر، يواسيه وهو الذي تكاد نفسه تذهب على قومه حسرات، يقطع المسافات والمفازات سعيا نحو من بايع وصدق، رجال يثرب ونساءها، ليؤسس لنا النموذج المدني النبوي الدستوري، مصدر إلهام الفكر السياسي في زمن التبست فيه الأمور وادلهمت الخطوب.
صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله في ذكرى هجرة حملت في مشكاتها وعد الفتح، وآل بيتك - أزواجك وبناتك - وأصحابك، وسلام لك يا حسين (ع) في ذكرى شهادتك... هجرة إلى ربك.
رحمة الله وصلواته على محمد وآل محمد
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2662 - السبت 19 ديسمبر 2009م الموافق 02 محرم 1431هـ