يعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948م، وثيقة تاريخية هامة، وإنجازا كبيرا على صعيد حقوق بني البشر، فقد جاء الإعلان إقرارا بكرامة الإنسان، واعترافا بحقوقه في المساواة والعدالة، والحياة الحرة والكريمة؛ وقد أشارت الجمعية العامة إلى كافة البلدان على أهمية نشر الإعلان وتوزيعه وإدراجه كبرنامج تثقيفي في المدارس والمعاهد التدريسية، وكل هذا جاء ابتغاء لعالم يتمتع فيه الفرد بكافة حقوقه، في إطار من الأمن والعيش الكريم بعيدا عن الخوف وذلّ الحاجة، وكم تذكرنا المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بقول الخليفة عمر بن الخطاب وهو يزجر أحد المنتهكين بعدوانيته إزاء حقوق إنسان آخر: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»...
قارنوا قول الخليفة هذا بالمادة الأولى من الإعلان العالمي والتي نصّها: «يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميرا، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء» فليت الإسلام السياسي اليوم، أن يقتدي بقول عمر، ويأخذ في البال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويضنّ بالتالي بأرواح البشر، لا أن يفجع الناس بمشاهد مروعة تقشعرّ لها الأبدان…
ثم تشير المادة الثانية من الإعلان، على سواسية بني البشر، دون أي تمييز في القومية أو الدين أو اللون أو الجنس أو الرأي... ثم تأتي المواد التالية، فتكمل شروط صون كرامة الفرد، وحقوقه، وتوفير الأمن، ومنع الاسترقاق، أو استعباد أي فرد، وعدم تعرض أي إنسان للتعذيب أو الحط من كرامة المرء…
إن مثل هذه الحقوق التي يتضمنها الإعلان العالمي، نفتقدها - للأسف - في عالمنا العربي، حتى أصبحنا نسمع هنا وهناك بوفاة إنسان ما تحت التعذيب، دون أن تكفل له التشريعات اللازمة باعتباره الشخصية القانونية كما يصرح بذلك الإعلان نفسه، الحماية اللازمة، ليدفع عن نفسه مثل هذا الأذى، ويلجأ إلى القانون لحمايته بالتالي، أو إلى القضاء لينصفه، كما يقر بذلك الإعلان في مواده الثامنة والتاسعة والعاشرة...
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يضمن للفرد الكثير من الحقوق، ويجنبه كثيرا من التعديات والتجاوزات… فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، والحكم يأتي بعد أن يمثل الفرد أمام قضاء نزيه يوفر له الضمانات للدفاع عن نفسه…
إن الإعلان يجيز للفرد حرية التنقل، ومغادرة بلاده، والبحث عن ملاذ آمن في بلد آخر هربا من الملاحقة والاضطهاد، ومن حقه بالتالي التمتع بجنسية بلد ما، فلا يحق لأية جهة أن تنتزع منه الجنسية تعسفا… كما إن الإعلان يبيح للفرد حق التملك، ويمنع بالتالي تجريده تعسفا من ملكه، فضلا عن هذا وذاك فالإعلان يعطي للفرد حق الانضمام إلى أية جمعية أو تنظيم، أهلي مدني، أو سياسي بمطلق الحرية والرغبة دون قسر أو إرغام...
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يرى ضرورة إيجاد فرص العمل للفرد بأجر عادل ومجزٍ، وحمايته من البطالة، بغية تأمين نمط من العيش بعيدا عن العوز والفاقة، وتوفير ما يلزم لإتاحة الفرص في التعليم… وقد حذر البيان في ختام مواده جميع المعنيين بذريعة أي تأويل، من النزوع إلى هدم الحقوق والحريات الواردة في الإعلان…
إذا ما انطلق واحدنا من الواقع العربي، وهو يستعرض مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فسوف يجد نفسه، أمام واقع آخر، واقع مغاير، أمام مفارقة كبيرة، بين المبتغى في الإعلان والواقع العربي المعاش، حتى يخيّل لواحدنا أن الإعلان يرصد واقعا مثاليا يبتكره خيال الإنسان لا عقله؛ فمازالت النظم العربية بعيدة عن التعايش مع مبادئ أساسية في حياة البشر والدول، كالحرية والمساواة وإرساء أسس العدالة، لأن الشرط الأول الذي تقتضيه هذه المبادئ هو عدم حصر السلطة في حزب ما مثلا، أو حكرها من قبل جهة واحدة، لكن أنظمتنا العربية بعيدة عن هكذا مناخات من الديمقراطية، فلطالما السلطة الحاكمة هي التي ترعى القوانين، فكثيرا ما تقوم بصياغتها من جديد، وتأويلها وتفسيرها بما يضمن لها التحكم والسيطرة والاستمرارية، وبالتالي نسف تلك الحقوق والمبادئ التي يشهّرها الإعلان...
إن التجاوزات القائمة من قبل النظم العربية لا يمكن حصرها في مجال ما، فمازال تعذيب المعتقل الأمر المنكر والفظيع ممارسا من قبل غالبية السلطات العربية الحاكمة، ويشهد على ذلك ضحايا التعذيب حتى الموت، فضلا عن الاعتقال الكيفي، وزجّ العشرات في أقبية السجون دونما محاكمة، أو على أحسن تقدير محاكمة صورية، كما أن الحجز على حرية الفرد، ومنعه من السفر، وسحب جواز سفره من الممارسات الاعتيادية، وأيضا محظور على مختلف الأحزاب والتنظيمات حق التظاهر السلمي، ولو كان في سبيل مسألة قومية أو وطنية، فالشعب هنا ليس مصدر السلطات، بل محكوم هو بإسار سلطة جائرة، تحكم عنوة، فلا تسمح السلطات بالتعددية على صعيد الأحزاب والتنظيمات، وبالتالي لا تعددية في الآراء، كحق التعبير خلال حشد جماهيري، أو تجمع سلمي، أو حتى على صعيد نشر الصحف. فضلا عن حالات أخرى عديدة...
إن الإنسان هو ركن الحياة الأول دون منازع في الكون، وهو دائما ينزع إلى الكمال، وإن سعي الأمم المتحضرة للرقي بالإنسان إلى هذا الكمال المنشود، من خلال تمتعه بتلك الحقوق التي يفردها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أمر محمود له ما يبرره، فإذا كان تحقيق هذه المبادئ عصي على التطبيق في بعض العوالم، منها العالم العربي، ولطالما أن تحقيق ذلك لا يدخل في خانة الاستحالة، فإذن ينبغي علينا أن نسعى ونناضل في سبيل تحقيق تلك المبادئ، وبمجرد السير في هذا الطريق، هو مناضلة وإيمان بتلك المبادئ، فلا بدّ إذن من مواصلة النضال حتى يتحرر الإنسان من وطأة الظلم والطغيان، وليشهد حالة مريحة، تترجم فيها كثير من تلك المثل التي ضحّى من أجلها الإنسان منذ الأزل إلى حقائق واقعية، ليستمتع الفرد بنعم الحياة وفي مقدمتها حريته الوافرة، وكرامته المصونة...
ولقد كرّمنا بني آدم...
* باحث وكاتب سوري، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2661 - السبت 19 ديسمبر 2009م الموافق 02 محرم 1431هـ