من منكم لم يسمع باسم الشيخ يوسف البحراني؟!
أفترض، إجمالا، أن معظم القراء قد سمعوا باسم الشيخ يوسف البحراني. وأفترض، إجمالا أيضا، أن معظم المسلمين المشرقيين المتدينين يعرفون أنه واحد من الفقهاء الكبار الذين ذاعت شهرتهم في المشرق الإسلامي على وجه الخصوص. صحيح أن مقلِّديه من شيعة البحرين، اليوم، قليلون، وأن أعدادهم في تناقص مطّرد، إلا أن معظم الشيعة المتدينين مازالوا ينظرون إليه بإيجابية وإكبار كبيرين، فهو الفقيه الإخباري المعتدل، و»شيخ مشايخ العراق والبحرين»، بل هو أعظم فقيه شيعي عرفته البحرين في القرن الثامن عشر دون منازع (وُلِد الشيخ يوسف في قرية الماحوز بالبحرين في العام 1107هـ/1696م، وتوفي في كربلاء في العام 1186هـ/1772م). ويعود جزء كبير من شهرة الشيخ يوسف البحراني إلى مؤلفاته الكثيرة، وقد كان أشهرها على الإطلاق كتاب «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» وهو أكبر موسوعة فقهية في تاريخ المؤلفات الفقهية الشيعية البحرينية ويقع في (25) مجلدا.
إلا أن شهرة الشيخ يوسف لا تنحصر في دائرة الشيعة المتدينين، بل تتعداها إلى عموم السنة المتدينين، غير أن المفارقة هنا أن هؤلاء الأخيرين يتعرّفون على الشيخ يوسف البحراني بسلبية مُرّة تضاهي في قوتها إيجابية التلقي الشيعي العام. ويكفي أن تضع اسم «الشيخ يوسف البحراني» في أي محرك بحث على الإنترنت حتى تنهال عليك المواقع والمنتديات السنية الطائفية التي لا تتورّع عن سبّ الرجل ولعنه وتحقيره والتشهير به ونعته بأقذع النعوت، فهو مرة «محدِّث الرافضة الكبير»، وثانية «الهالك المجوسي الزنديق»، و«الرافضي الهالك...»، وهذا مجرد غيض من فيض من تلك النعوت البذيئة والمقززة والمثيرة للاشمئزاز.
يتشابه التلقيان العموميان، السني والشيعي، في وصف الشيخ يوسف البحراني بأنه من «أكبر فقهاء الشيعة وعلمائهم». هل هذا تعظيم موحد وإكبار مشترك للشيخ يوسف؟ كلاّ، فالفرق بين التعظيمين كبير، وهو فرق في حقيقة التعظيم ووظيفته، فالتعظيم صادق وحقيقي لدى عموم المتدينين الشيعة، كما أنه جاء من باب التفاخر والتبجيل لمؤلفات الشيخ يوسف وجهوده الفقيهة الكبيرة. في المقابل، لم يكن هذا التعظيم عند عموم المتدينين السنة حقيقيا، إنما جيء به ليؤدي وظيفة ذرائعية معينة، فهو، إذن، تعظيم ذرائعي استعمالي جرى التأكيد عليه لا على وجه الحقيقة ولا من باب القناعة، بل ليؤدي وظيفة محددة فقط، وهي استعماله كذريعة للهجوم على «عقائد الشيعة» والتشنيع عليها من باب «وشهد شاهد كبير] من أهلها». وسوف يتحكم هذا التعظيم الذرائعي في التلقي السني الطائفي الحديث الذي دار حول الشيخ يوسف.
لم يتركّز الاستعمال الذرائعي لعظمة الشيخ يوسف على مؤلفاته الفقهية، وهي أعظم ما تركه الشيخ يوسف، بل تركّز على كتاب آخر اسمه «أنيس المسافر وجليس الحاضر»، واشتهر باسم «كشكول الشيخ يوسف». وإذا أردنا التفصيل أكثر، فإن شهرة هذا الكتاب الأخير إنما جاءته من حكايتين اثنتين أتى الشيخ يوسف على ذكرهما ولم تأخذ الحكاية الأولى سوى نصف صفحة، والثانية سوى صفحتين من كتاب يقع في ثلاثة مجلدات، يربو كل واحد منها على الأربعمئة صفحة.
هذه مفارقة حقيقية، فكيف يمكننا أن نصدّق أن كل هذه النعوت الخطيرة إنما أطلقت على الشيخ يوسف بسبب صفحتين ونصف فقط جرى ذكرهما في كتاب يجري مجرى «الكشكول» أراد صاحبه أن يجمع فيه الطرائف واللطائف والنوادر من الأشعار والحكايات ليكون تسلية في أوقات الفراغ للمسافر والحاضر؟ ولكن، من قال إن هاتين الحكايتين من البساطة بحيث يمكن تجاوزهما بهذه السهولة؟ ثم إن التلقي الذرائعي الاستعمالي لأي خطاب لا يكترث بحجم هذا الخطاب. أما إذا جرى هذا التلقي الذرائعي في سياق التواصل (أو اللاتواصل على نحو أدقّ) عبر خطاب الحقد والكراهية والاستفزاز، فإنه لا يهم أن يقع خطاب الكراهية المستفزّ في مجلدات ضخمة أو في صفحتين أو حتى في جملة منقولة على لسان آخر، المهم في هذا النوع من التواصل/ اللاتواصل هو قوة الخطاب الاستفزازي، وشدة وقعه وضرره على نفوس المتلقين المستهدفين بالأذى. وهذا هو، بالفعل، حال حكاية الشيخ يوسف في «الكشكول»، أقول «حكاية» بدل «حكايتين» لأن الحكاية المستفزة والمؤذية إنما هي الحكاية الثانية، فالأولى حكاية جرت بين أبي نواس وصبي (الكشكول، ج: 3، ص 83)، وفيها يتبادل الاثنان خطاب المراودة بالاستعانة بآيات قرآنية. فهذه حكاية يمكن تجاوزها لأنها لا تندرج ضمن خطاب الحقد والكراهية والاستفزاز المذهبي. وحتى إذا كانت هذه الحكاية صادمة، فإنه يستوي في هذه الصدمة عموم المسلمين المتدينين سنة وشيعة. إلا أن الحال مختلف في الحكاية الثانية. فهذه حكاية بالغة الاستفزاز، واستفزازها صادم وغير محتمل بالنسبة لشعور المسلم الحديث. هذه الحكاية المقذعة والمؤذية التي يوردها الشيخ يوسف في كشكوله هي حكاية «نسب عمر بن الخطاب» (ج: 3، ص 212). ليست الحكاية من ابتكار الشيخ يوسف، بل إنه يرويها بتلخيص عن النّسابة محمد بن السائب الكلبي، إلا أن هذا لا يشفع للشيخ يوسف، فأصبحت هذه الحكاية هي المحفّز الأبرز في تكوين صورته السلبية، بل شديدة السلبية، لدى التلقي السني العمومي.
ما يصدم في هذه الحكاية ليس حبكتها الغريبة والمؤذية والتي أريد من ورائها الطعن في نسب واحد من أبرز صحابة الرسول، بل جرأة الشيخ يوسف في إيراد هذه الحكاية، فمن أين له كل هذه الجرأة؟ ألم يكن الشيخ يوسف على دراية بحجم الأذى الذي يسببه إيراد أمثال هذه الحكايات على عموم المسلمين؟ ألم يكن يخشى أن يناله هو أو ينال شيعته الأذى والضرر انتقاما من هذه الجرأة غير المحتملة؟ ولكن ما الذي يحملنا، اليوم، على أن نطرح هذا النوع من الأسئلة ونحن نعرف أن لكل عصر ظروفه وسياقاته وطرائقه الخاصة في التواصل/ اللاتواصل والتعبير عن أفكاره ومشاعره وكراهيته؟ ثم هل كانت هذه حكاية جريئة ومؤذية حقا؟ وهل كان إيرادها ينطوي على كل تلك الجرأة التي نستشعرها نحن اليوم؟ ألا تعود هذه الحكاية إلى عصر كان الناس فيه، علماؤهم وعوامهم، لا يتورعون عن سبّ المختلفين عنهم دينيا ومذهبيا وعرقيا، وشتمهم ورميهم بأشنع التهم والأوصاف؟ هل كان الشيخ يوسف المؤلف الوحيد في هذا العصر الذي يمتلك جرأة القول المؤذي والجارح والمستفزّ؟ بالتأكيد لا، فيكفي أن نتذكر أن الشيخ يوسف البحراني عاصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1115 - 1206هـ/ 1703 - 1792م) وجايله. وهذا الأخير هو مؤسس الدعوة السلفية الجديدة في شبه الجزيرة العربية، وهي الدعوة التي التصقت به وأخذت منه اسمها: «الوهابيّة». ويكفينا هذا التذكير لنعرف أي نوع من الجرأة المؤذية والمستفزة تلك التي عرفها القرن الثامن عشر، والتي مازالت تلقي بظلالها الثقيلة على راهننا.
يتطلب التعبير عن الكراهية المستفزة جرأة وشجاعة لم تكن معدومة، بالتأكيد، في القرون التي سبقت القرن الثامن عشر، إلا أن نصيب هذا القرن (عصر الشيخين يوسف البحراني ومحمد بن عبدالوهاب) من الجرأة كان وافرا، ولهذا كانت كراهيته غير محتملة كما سنرى في مقالة الأسبوع المقبل.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2650 - الإثنين 07 ديسمبر 2009م الموافق 20 ذي الحجة 1430هـ
سلام الله على امير امؤمنين علي
اي مو حنا هذا اللي يبغوه يبغو يبعدو دين النبي واهل البيت ويعرضو في الكتب عن بطولات اللي ما يستاهلو ولا يوصلو حتى نص من فضائل امير المؤمنين ويسممو عقول اطفالنا
اقول بس عجل يا فرج الله
الامام علي ع لا يختلف عليه مسلم
هناك في نهج البلاغة خطب وكلام للامام علي ع يستفز السني أيما استفزاز وقد يكون سبب في وجود النواصب وسبه على المنابر أرجوا أن نقرأة تناولك لهذا الموضوع وندعو لك بالتوفيق
ذخـــــائر . من . الكـــراهية !
والآن – وبكل صراحة - بانت النوايا والخبايا ، إذن فانطلقوا مع بركات الله وحفظه في ميادين المعرفة لتتسنّموا ذروة الرقي الدفاعي المنطقي والحضاري،فأنتم ذوو نباهة وكفاءة وثقة ، لإيضاح الحقائق ولصد هجمات الجهل و التخلّف وكل التحديات ، وأحسنوا بأن يكيل لهم بالصاع التي يكيلون منها أو رد ( الصاع صاعين لرد كيدهم في نحرهم ) وبالتوفيق، كل الشكر للكاتب وللوسط ... نهوض
هو تراثنا
عزيزي الدكتور ، يعتمد البعض رواية الفقيه الاكبر جورج أورويل ، ومنطوقها ان "ناقل الكفر ليس بكافر (إلا إذا أغضبنا وحدنا)". المشكلة هي اننا نتعامل مع التراث بصورة انتقائية ، فما وافق أهواءنا حكمنا بصحته وما خالفها جزمنا بانه موضوع ومدسوس ونسبناه الى اليهود والنصارى والزنادقة مع اتحاد المصدر وامتزاج السم والدسم في وعاء واحد. دم سالما. د. عباس كاظم - كاليفورنيا
مقال مشوق وثري
المقال مشوق وثري بالمعلومات وما لفت نظري هو ان الشيخ يوسف البحراني عاصر محمد بن عبد الوهاب الوهابي. هذه معلومة جديدة عندي. تسلم ايدك
اخيرا بترجع تكتب
اخي .. اشنقتا الى كتاباتك ... لاتحرمنا من عقلك وافكارك ..
حسين الستراوي
رائع
منذ ان نوهت الاسبوع الفائت عن هذه السلسة وانا افكر بأي اسلوب سيتم طرح فكرة حساسة ومثيرة كهذه ..؟
التسلسل في الطرح كان موفقا جدا ., وجريئا بعض الشيء ورغم كل ذلك لازال في اطار الموضوعية والتعاطي الايجابي .
لا يمكن الحكم او النقد قبل اكتمال السلسلة .. وولكني علقت اثناءا وفخرا بهذه العقلية المفكرة في وطني البحرين ..
great
You are realy amazing, all the best
خل عندك إنصاف يا كاتب الموضوع
كالعادة مستتر وراء عباءة الانتقاد لشيوخكم الشيعة في بداية المقال لتبث سمومك في نهاية المقال على مشايخ السنة وبالأخص الشيخ المجدد الإمام محمد بن عبدالوهاب " على فكرة جل الجامعات الإسلامية العريقة في الأزهر والزيوتونة وغيرها تدرس شخصية الإمام محمد بن عبدالوهاب على أساس أنه من المجددين " لكي لا يقول البعض كلام وهابية . شيخكم يوسف البحراني أورد رواية للطعن في نسب أمير المؤمنين عمر الفاروق ، فهلا أتيت يا كاتب الموضوع برواية للشيخ محمد عبدالوهاب يطعن فيها بالأنساب . حتى تكون منصفاً
لاعب اللعبة صح يا كاظم!
روح دربك خضر .. بس أنا صراحة لا زلت شكاك الجماعة فهموا المغزى و الله إلى الحين في نوم الهنا؟! طبعا اشوف في تطورات بين كل فترة و فترة ... هل هذا الشيء مدروس و مخطط له .. أم عفوي! لا ليس الموضوع عفوي مستحيل هذا الشيء ... و لكن كما يقولون يأتيك بالأخبار من لم تزود .. سر على بركة الله!
سلسلة حامية من البداية
دكتورنا العزيز د. نادر، باينها سلسلة المقالات هذه المرة حامية من البداية والقضية حساسة جداولكنك قادر على الكتابة فيها بحكمتك المعهودة
المداراة نصف العقل
طابت أوقاتك أستاذ نادر, نِعم المنطق ونِعم القول يا عزيزي, ولنا في سيرة الإمام علي (ع) القدوة الحسنة, وذلك بحكمته في إدارة شئون المسلمين بعد وفاة الرسول الأعظم (ص).
مع وافر التحية