أرسل لي أحد القراء الأصدقاء من الشباب ملاحظة حول بعض ما أكتب يقول فيها أنه التفت إلى مسألة في أسلوب كتابتي وهو أنه يجدني حاضرة في بعض النصوص، أحكي عن خبرة هنا أو موقف هناك بما يجعل من الممكن لمن يتابع كتاباتي أن يجمع بعض التفاصيل عن حياتي ويعرفني كإنسان.
سجل الشاب ملاحظته وسأل عن السبب، فكان ردي هو أن غياب الكاتب عن النص هو اللافت... وليس حضوره، فأنا لا أفهم أن نكتب عن قضايا الحياة والتغيير دون أن نستدعي أحداثا مررنا بها أو أقصوصة من هنا وموقف من هناك، فأفكارنا وليدة معايشتنا للحياة ومن حق الفكرة أن تجد لها نسبا في تفاصيل ومشاهد.
جلست أتأمل في ولادة الأفكار ونموها، خاصة أنه راسلني بعدها بيومين يسأل عن البحث عن الحقيقة بمنهج، فماذا لو غاب المنهج هل نبحث عنها أم نتوقف لغيابه؟ فراجعته قائلة أن المنهج ليس آلة صماء تحملنا لأرض الحقيقة، بل هو جزء من السعي نفسه، البحث عن الحقيقة وعن المنهج معا.
ذكرني ما تبادلناه من أفكار بكتاب الحقيقة والمنهج لجادامير... الفيلسوف الألماني الشهير وتلميذ هايديجر، وبالطبع كان هايديجر نفسه في كتاب الوجود والزمن حاضرا في وعيي.
في الحقيقة والمنهج كتب جادامير عن أفق المعنى وانبثاقه، وكان قد تعلم من هايديجر أن المعنى لا ينفك عن الوجود الذاتي للمفكر، ولا عن المكان، والزمن... زمن الذات وسياق التاريخ.
لم أفهم إذا كيف يمكن أن يغيب حضور الذات في مساحات المعنى، وكيف يمكن أن يكتب أحد نصا لا يعكس حالة وجودية أو سياقا معرفيا أو لحظة تاريخية، اللهم إلا كتاب الله الذي هو وحي مصدره خارج المكان والزمن، وحكته متجاوزة لهما، لكن المعنى الذي يستكشفه العقل حين يرتحل بـ «اقرأ» بين الحروف والآيات والسور يبقى اجتهاد العقل.
سيقول قائل لكن المعنى له ثبات في حال الوحي وأقول نعم، ثبات اللغة وليس ثبات المعنى، لأنه لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فهو معنى يتموضع في زمنه ومكانه، لكنه يحمل الوجود لحكمة علية وفهم مقاصد وسنن كونية ومجتمعية، من هنا جدلية العقل والوحي، والمعنى والوجود والزمن، ومن هنا خلود الوحي لأنه يستجيب، وإبداع الخالق في العقل لأنه يسأل ويجيب، ويتجدد ويتفاعل، وهكذا نبني التراث جيلا بعد جيل بلا انقطاع للخلف عن السلف، وبلا مصادرة للسلف على أفق المعنى واجتهاد عقل اللاحقين.
دفعني هذا الجدل للتفكير مجددا في قضية الذاكرة، ليس فقط ذاكرة الفرد الإنسان في تعامله مع الحوادث والربط بينها، لكن ذاكرة المعنى، كيف سرنا مع مفاهيم ومعني وصحبناها وصحبتنا، بعضها بقى وصمد والآخر سقط منا على الطريق، وكيف استدعينا بعض السواقط وأحييناها، وكيف ننسى وكيف نتذكر المعاني مع خبرة الحياة.
في ذهني ارتباط بين معنى العدل وصورة أبي، هذا الذي لم يكن قارئا نهما بل رياضيا نشطا في وقت فراغه، لكنه علمني معاني عظيمة كان يمارسها بدلا من أن يتكلم عنها، منها معنى العدل، فقد كان حريصا عليه في تنشئتي غاية الحرص، فلم أعرف «معنى» التمييز بين الذكر والأنثى، بل ربما كان ما عايشته هو تمييز إيجابي لصالح الأنثى الطفلة في رعاية وحنو ودفع للتفوق ودعم مع الأيام يزيد ولا ينقص. ثقة مخلوطة بالرحمة، ومحبة ممزوجة بالتدريب على الاستقلال والاعتماد على النفس. وفي مشاهداتي له في حركته في الحياة كان - رحمه الله - يجسد مسئولية الإنسان عن العالم، يهتم بأمر من حوله بإخلاص يصل لحد الاندفاع، ويراجع نفسه بعد الغضب فيحنو دون أن يتردد أو يستكبر. تلك المعاني تعلمتها منه فاختلطت بمفهوم العدل بشكل لا ينفصم ولا ينفك عن الوجود ذاته، وكثيرا ما أجدني أقدم تعريفات للمفاهيم تعتمد على خبرتي الوجودية بأكثر من المعاني الراقدة في بطون الكتب، فقد أراد الله أن يكون دوري في الحياة تعليم الأجيال الشابة رؤية المفاهيم عيانا متجسدة في العلاقات الواقعية والحياة الاجتماعية والسياسية، وأن يكون مجال تدريسي هو عالم الأفكار والنظريات السياسية، وربطها بعالم الوجود ومدارات الذات الإنسانية.
حين كتبت في المقال السابق عن طبائع الاستبداد وذكرت عبقرية نادر كاظم الذي يحق للبحرين أن تفخر بأنها أنجبت مثله في صكه مفهوم طبائع الاستملاك توقف الكثير من القراء في تعليقاتهم التي وصلتني على بريدي الإلكتروني عند الاستبداد والاستملاك كمفاهيم، وغفل البعض عن دلالة ربط المفهوم بالطبائع، فالأمر ليس فقط علاقات قوة يمارس فيها حاكم ما في زمن ما... الاستبداد، بل الفكرة في تحول العلاقة الظاهرة لعلاقة مستبطنة تخترق طبقات الوعي والوجود ليسكن الخنوع في القلوب فيستمر الاستبداد، والفكرة في الدنيا التي تسكن النفس فتسلم قيادها للاستهلاك لا تنهض من ركونها له إلى استغناء يورث عزة ويتيح الخروج من ربقة الذل والهوان والرؤية المادية للعالم التي تستبد بالبشر فيقبلون بالأدنى ويتركون ما هو خير وأبقى. من هنا فإن المعاني تظهر في حركة الوجود سلبا أو إيجابا، وتنساب مع السلوك فعلا أو تركا، وتتحقق في القلوب يقينا وحقا... أو التباسا و ظنا.
في المعاني وجود، وللوجود معاني، وتبقى الذاكرة قضية في غاية الأهمية، لأن الوعي الوجودي لا يظل يقظا طول الوقت، فقد يغفو... بل قد يموت، فيعيش الناس كالأنعام، أو أضلّ: صُمٌ بُكمٌ عُميٌ.
قد تبقى الذاكرة حية، نستقي منها المعاني في تجدد مستمر، ونبني فوقها آفاقا جديدة للدلالة والمعنى والحكمة، وقد ينسى الإنسان فتسود الغفلة، وقد يستيقظ الوعي في صحوة، وقد يركن لسبات عميق. هذا في الإفراد كما هو في الأمم، وكم شاهدنا من فرد تحول وعيه باكتشاف معنى، وقد تغفو أمم ثم تستعيد وعيها حين تستيقظ الذاكرة التاريخية.
وظيفة الشعائر الدينية تحقيق الانتباه، وتجدد الوعي، برمزية بالغة العمق، وانسجام وتفاعل مع تفاصيل الحياة، وقد خرجنا من عيد الأضحى وموسم الحج بدروس ناصعة.
بل أختم بأن الإيمان موقف وجودي، ليس شهادة فحيب بل أيضا رضا، وقد يسلم العقل واللسان ولا يسلم القلب، وما لم يستقر الرضا عن الله في الجوانح فيوشك العقل أن يركن للغفلة والظن ويوشك اللسان أن يصيبه الخرس... فتستكين النفس لطبائع الخنوع.
لذا كان من خير الدعاء: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
وفي القرآن وصف لافت يدلنا كيف تعقل القلوب... وتفقه الأفئدة. إنه اكتمال الوجود... باليقين، وبحركة العقل في التاريخ لتحقيق لاستخلاف والبحث الدائب عن الحقيقة. وفي السيرة والسنة معانٍ جليلة في هذا المضمار.. لمن كان له قلب أو ألقى السمع... وهو شهيد.والله أعلم
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2648 - السبت 05 ديسمبر 2009م الموافق 18 ذي الحجة 1430هـ
selfextract
في المعاني وجود، وللوجود معاني، وتبقى الذاكرة قضية في غاية الأهمية، لأن الوعي الوجودي لا يظل يقظا طول الوقت، فقد يغفو... بل قد يموت، فيعيش الناس كالأنعام، أو أضلّ: صُمٌ بُكمٌ عُميٌ.