30 مليار دولار هي موازنة الحرب على أفغانستان. والمبلغ المضاف لتغطية نفقات 30 ألف جندي أميركي في معركة عبثية في نتائجها تكشف عن مفارقات تعاني منها عادة الدول الكبرى وتحديدا تلك التي تدعي أنها تمتلك ذاك «النموذج المثالي» القابل للتصدير إلى الشعوب.
المبلغ المضاف على حرب بلغت تكاليفها المجمعة من موازنات تراكمت منذ نهاية العام 2001 أكثر من ألف مليار دولار جاء في مرحلة تعاني منها الأسواق من أزمة نقدية قضت على شركات ومؤسسات ومصارف. والمفارقة أن الدولة الأميركية قررت استكمال المغامرة تلبية لحاجات مجمعات التصنيع الحربي في وقت تبدو الأزمة المالية مرشحة للنمو والتوسع إذا فشلت سياسة ضبط الانفاق على قطاعات غير منتجة (أفلست أمس 6 مصارف).
حتى الآن أنفقت الولايات المتحدة على حروبها الاستباقية في أفغانستان والعراق أكثر من ثلاثة آلاف مليار ويرجح أن تتطور مصاريف الموازنات لتصل إلى معدل ستة آلاف مليار كما توقع بعض الخبراء في شئون الاقتصاد.
أسئلة كثيرة يمكن طرحها بشأن هذا البذخ غير المسبوق على حروب وهميّة في وقت تعاني الولايات المتحدة من أزمات بنيوية في قطاعات الصحة والتربية والضمانات الاجتماعية والبنية التحتية (الطرقات، الأنفاق، الجسور) والإسكان وصناعة السيارات. السؤال الأول لماذا تتوجه إدارة باراك أوباما إلى تغليب الحرب على التنمية وتلك الوعود التي طرحها خلال معركة التنافس على الرئاسة؟ والسؤال الثاني لماذا تقتطع إدارة واشنطن المليارات من الموازنة العامة ومحفظة الضرائب لتغطية حرب فاشلة في وقت تطالب الدول بالمساعدة على حلحلة تداعيات الأزمة النقدية؟ والسؤال الثالث هل تعاني أميركا فعلا من مأزق مالي أم أنها دخلت طور المراوحة في المكان ولم تعد قادرة على تجديد نموذجها؟
السؤال الأخير يمكن أن يشكل ذاك الرد على السؤالين الأول والثاني. فالدولة الكبرى حين تدخل مرحلة السكون تصبح غير قادرة على التقدم في لحظة سلبية لا تعترف خلالها بأنها تعاني من معضلة. وأميركا الآن بعد أن تجاوزت حقبة جورج بوش دخلت في فترة يرجح أن تؤدي إلى انكشافها التاريخي وعجزها عن مواجهة تحديات الحقبة المقبلة. وقرار الإدارة بضخ 30 مليار دولار لتغطية نفقات الحرب الفاشلة في أفغانستان يشكل ذاك المثال الحيوي على أزمة تتجاوز عتبة المال.
أزمة الولايات المتحدة انتقلت إلى النموذج وعدم قدرة الدولة على تسويقه في عالم مضطرب من جهة ولكنه من جهة أخرى يشهد متغيرات في التوازنات الدولية ومراكز القوى. فالنموذج الأميركي الذي نجح جزئيا في تجديد نفسه ذاتيا من خلال اقتلاع إدارة بوش الجمهورية دخل في الآن دائرة الفشل في إعادة تعويم سمعته العالمية. والمحاولات البريئة التي بذلها الرئيس أوباما لم تكن كافية لتحسين الصورة لأن المطلوب أكثر من النوايا الحسنة والخطابات الوردية والوعود الزاهية.
مشكلة أميركا تجاوزت المال إلى طبيعة النموذج والآليات التي تتحكم بموارده ونفقاته. فالآليات تتحكم بها قوانين السوق وما تطلبه من الإدارة من موازنات لتغطية حاجات الشركات للتسويق والاستهلاك. والحرب في أفغانستان هي جزء من متطلبات السوق بغض النظر عن الأزمة المالية واضطراب بورصة الأسهم والنتائج المتوقعة من استكمال المهمة على «طالبان».
معضلة التغيير
الرئيس أوباما الذي انتقد سياسة بوش التقويضية واستفاد من أخطاء إدارته الجمهورية وطرح مشروع «التغيير» ووعد جمهوره بتحسين الإنفاق على قطاعات التربية والصحة والإسكان والبنية التحتية دخل من حيث خرج الرئيس السابق وأخذ يكرر خطواته. والسبب الذي دفع أوباما إلى هذا المكان يتخطى دوره وإمكاناته ويتصل مباشرة بعدم وجود خيار آخر لديه. فالرئيس الأميركي مكره في اختياراته وهو لا يستطيع تجاوز آليات صنع السياسة في دولة كبرى تخضع لقوانين السوق وتحكم شركات الاحتكار بمفاتيح القرار.
لا خيار آخر للرئيس أوباما سوى القبول بشروط اللوبيات التي تدير قرارات السلطة السياسية من وراء الكواليس. وتراجع أوباما عن الكثير من وعوده لا يعود بالضرورة إلى مسألة شخصية ونفسية وإنما بسبب تلك الضغوط التي يتعرض لها لمنعه من كسر آليات صنع السياسة وقوانين السوق.
أوباما الآن يواجه معضلة النموذج الأميركي. فهو من جانب لا يستطيع خوض معركة خاسرة ضد «اللوبيات» ومن جانب آخر لا يمتلك تلك الإمكانات التي تسمح له برفض الاستجابة لمتطلبات قوانين السوق ومنها مؤسسات التصنيع الحربي.
هذا المأزق يتعدى أزمة النقد وفراغ الخزانة الأميركية من المال وتورط الدولة في مزيد من الديون وتراجع الإدارة عن الكثير من الوعود. المأزق وجودي وله صلة بالنموذج الذي استنفد وظائفه وأغراضه التاريخية وأصبح في موقع لا يستطيع التطور حتى يصبح جاهزا لإعادة التصدير والتسويق في قارات العالم. والأسوأ من مأزق النموذج يتمثل في عدم قدرة الدولة (الإدارة) على تجنيد القوى البشرية للدفاع عنه. وهذا الأمر يكشف عن معضلة سياسية تضاف إلى مأزق النموذج.
حين تصل دولة كبرى إلى موقع تاريخي متقدم تصبح فعلا أمام مأزق ينشطر إلى دائرتين: الأولى داخلية تتمثل في قدرة الإدارة على تحسين النموذج من خلال توسيع قاعدته الاجتماعية لضمان رفاهية الناس. والثانية خارجية تتمثل في سمعة النموذج وجاذبيته ومدى قدرة الدولة على تسويقه والدفاع عنه بأقل كلفة مالية وبشرية. الدائرة الأولى نجحت المؤسسات الثابتة في تجاوزها جزئيا حين أتاحت فرصة للتغيير اللوني في هيئة الإدارة. الدائرة الثانية تبدو المؤسسات التقليدية غير قادرة على تخطي تلك الإشكالات التي تواجه النموذج عالميا. وهذا يعني أن الولايات المتحدة دخلت في طور متأزم في إدارة مصالحها والدفاع عنها في الخارج.
موازنة الحرب الإضافية في أفغانستان بلغت 30 مليار دولار لتغطية نفقات 30 ألف جندي، أي أن كلفة الجندي وصلت إلى مليون دولار سنويا لتأمين حمايته وعدم تعرضه للخطر. والأمر المذكور يؤشر فعلا إلى وجود مأزق يتمثل في عدم قدرة إدارة دولة كبرى في إقناع شعبها بأهمية التضحية دفاعا عن نموذج ترى فيه جاذبية تستحق كل هذه النفقات والتكاليف.
الدولة الكبرى (أي دولة كبرى) حين تصل إلى هذا الطور من الانشطار بين الداخل والخارج وتصبح عرضة للتحدي من كل حدب وصوب فمعنى ذلك أنها باتت في موقع الضعيف لا بسبب أزمة المال والنقص في السيولة النقدية وإنما بسبب انتفاء الحاجة العالمية إليها وعدم وجود قوى بشرية محلية مستعدة للدفاع عنها والمغامرة بمكاسبها الاجتماعية وحياتها المرفهة... والتضحية من أجل إنقاذ النموذج من الانهيار
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2648 - السبت 05 ديسمبر 2009م الموافق 18 ذي الحجة 1430هـ