أعود، هذه المرة، كما في كل مرة، بموضوع ثقيل على القلب، وربما كان ثقله، هذه المرة، أعظم مما سبق. سأتكرس في سلسلة المقالات الأسبوعية المقبلة على موضوع «الكراهية». لا أدري ما الذي ورّطني بهكذا موضوع، لكني وجدت نفسي أشتغل على الكراهية وخطابات الاستفزاز والتحقير والإهانة.
ليس في نيتي أن أبحث عن منطق كامن وراء انتقالاتي من «استعمالات الذاكرة» (2008) إلى «خارج الجماعة» (2009)، إلى موضوع الكراهية الراهن، إلا أن الربط بين هذه الانتقالات ليس عسيرا، بل إني أتصور أن ثمة صلة وثيقة بين هذه الموضوعات. وفضلا عن هذا، فقد وجدت أن استكشاف هذه الصلة ربما يكون بداية جيدة لعودتي للصحافة ولقرائها بعد انقطاع دام خمسة شهور.
في «استعمالات الذاكرة» كنت أتعامل مع حالات التذكر الجماعي لا الفردي، وفي معظم هذه الحالات فإن الناس لا يتذكرون لأنهم، هكذا، مجبرون على التذكر، بل لأن هناك من يذكّرهم. ومع هذا فلا يمكن إنكار أن ثمة حالات من التذكر اللاإرادي، تذكر لا يحتاج إلى مذكِّرين لينبعث من مرقده. وهو، في الغالب، تذكر يرتبط بذكريات مؤلمة تنحفر عميقا في ذاكرة أصحابها. هنا علينا أن نكتشف علاقة الدعم المتبادل القائمة بين الألم والذاكرة، حيث يضطلع الألم بتخليد الذاكرة فيما تضطلع الذاكرة بتخليد الألم والإبقاء على ذكراه طريّة متجددة. والكراهية واحدة من مسببات هذا الألم، ولهذا فإن الألم الذي ينتاب البشر بسبب كراهية حقودة تستهدفهم أو تحقير بغيض يكون من نصيبهم وحدهم، هذا النوع من الألم مرشّح بقوة لأن يبقي في الذاكرة ويستعصي على النسيان، فهو أشبه بجرح لا يلتئم أبدا، وإن التأم فإن أثره باق لا محالة. هكذا يبدو ألم الكراهية والتحقير والإهانة وكأنه يخلد وجوده في الذاكرة، ويخلّد معه هذه الذاكرة.
نعرف، منذ فردريك نيتشه، أن الألم هو أقوى مساعد على تقوية الذاكرة، «ووحدها الأشياء التي لا تفتأ تؤلمنا تبقى في الذاكرة». هذا يعني أننا يمكن أن ننسى أشياء كثيرة بكل سهولة، بل إننا على استعداد كبير لنسيان المناسبات السعيدة الهانئة، إلا أن ذكريات الإهانة والكراهية تنحفر في نفوسنا وتقاوم النسيان. ومن قاده حظه العاثر، يوما، ليكون مستهدفا وجها لوجه بكراهية بغيضة وبتحقير يهزّ البدن ويزعزع اتزان النفس ورصانتها، سيعرف أن ذكرى هذا الموقف ستبقى معه طويلا، وستؤرقه كثيرا. ليس غريبا بعد هذا أن نعرف أن أعظم الذكريات رسوخا وتجددا هي تلك التي ارتبطت بالألم والدم وتضمخت بالكراهية والتحقير والإهانة، نتذكر هنا ذلك العنفوان الذي يحفظ ذاكرة العذاب اليهودية حيّة بعد كل تلك الآلام والكراهيات والتحقيرات التي استهدفتهم طوال التاريخ. التذكر الدائم هو قرين الجماعات التي عانت أكثر من غيرها، واستُهدفت بخطابات الكراهية والتحقير والإهانة أكثر من الآخرين. وما ينطبق على الجماعات ينطبق على الأفراد، فمعظم الأشخاص المصابين بهوس التذكر القهري هم أشخاص عانوا أكثر من غيرهم، وتعرّضوا، أكثر من الآخرين، للكراهية التحقيرية المقيتة التي كانت تفوق قوة التحمل النفسي لديهم.
يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون، إلا أن المفارقة هنا أن هؤلاء المنتصرين هم أكثر قدرة على النسيان، وهم، في الغالب، يتعاملون مع تاريخهم بتراخٍ واستسهالٍ وبنوع من اللا مبالاة وعدم الاكتراث، وحين يدبّ الوهن في انتصارهم تراهم يلجأون إلى التاريخ وذاكرة انتصارهم القديم. أما المهزومون الضعفاء المغلوب على أمرهم فإنهم يبحثون عن العزاء في الذاكرة، وهم يحفرون وجودهم المهدد عبر الذاكرة، حتى لو كانت ذاكرة الألم، ذاكرة الهزيمة، ذاكرة الكراهية.
كان سيغموند فرويد يرى أن العدوانية - والكراهية سليلتها المباشرة - غريزة أساسية في الطبيعة البشرية، وأنه لا سبيل لاقتلاع جذور الكراهية من نفوس البشر. اكتشف فرويد، أيضا، أن العدوانية (الكراهية) هي وسيلة لتعزيز التلاحم داخل الجماعة أو الأمة. لا يمكن تصور أمة تكون حدودها هي كامل حدود الإنسانية جمعاء، لأن الكراهية ستكون، عندئذٍ، مكفوفة وبلا موضوع تستهدفه، مما يعني أنها سترتد على الذات لتصبح هي هدف الكراهية (كراهية الذات). افترض فرويد أن للكراهية طاقة في نفوسنا تماما كما افترض أن الليبيدو هو طاقة غريزتنا الجنسية، وأن هذه الطاقة لا بد من تفريغها خارج الذات، خارج الجماعة من أجل حفظ الذات وحفظ الجماعة. فالحب والتواد والتراحم الذي يؤسس أواصر الروابط بين جماعة ما لا يمكن ضمان استمراره إلا باختراع آخرين يتلقون الضربات، ضربات العدوانية والكراهية، وإلا ارتدت الضربات إلى داخل الجماعة.
هل الكراهية هي التي تبقي الذاكرة حية عصية على النسيان؟ وهل الكراهية هي التي تحفظ تلاحم الجماعة وتضامن أفرادها داخلها؟ يمكن الإجابة عن هذين السؤالين بالإيجاب، إلا أنه ليس في نيتي أن أكتب عن دور الكراهية في الذاكرة وتلاحم الجماعة، وبدل هذا سأهتم باستقصاء سيرة الكراهية وخطابها في التاريخ، وسأهتم، كذلك، بتأمل ما يجري اليوم لهذه الغريزة العنيدة وما ينتظرها من مصير قلق في ظل تحولات مهمة سأتناولها في المقالات المقبلة. هل ستنقرض الكراهية مع الزمن؟ وهل خطابها آيل إلى الضمور والاضمحلال؟ وهل صرنا في وضع يسمح لنا بالقول بأن جذور الكراهية - التي كان فرويد واثقا من رسوخها وتجذرها في طبيعتنا البشرية - سوف تقتلع مع نشوء الدولة وقوانينها التي تجرّم خطاب الكراهية والإهانة والتحقير وتشويه السمعه والقذف والسبّ؟ ولكن ألا تتعامل الدولة بانتهازية ومصلحية مع الكراهية؟ ألا تحرّض هي على الكراهية وقت ما تجد في ذلك مصلحة لها؟ ألا تقرّ هي الكراهية وتشجع عليها حين تتغافل عن تجّار الكراهية ومحرضيها؟ ولكن من يجرؤ اليوم على المجاهرة علنا، ودون لفّ ودوران، بالكراهية؟ أليست الكراهية التي نراها اليوم كراهية مصطنعة مزيفة مختلقة لمآرب سياسية، وفي الغالب هي مآرب انتخابية؟ أليس لافتا حقا أن أكثر المحرّضين على الكراهية اليوم هم من نواب البرلمانات أو الطامحين لدخول المجالس التشريعية؟ لا أتحدث عن البحرين، فهذه حالة جلية حيث الكراهية المصطنعة هي مجرد حيلة انتخابية لكسب المزيد من أصوات هذه الطائفة أو تلك، ولكن لنلق نظرة سريعة على أصحاب خطابات الكراهية حول العالم، سنجد أن معظم خطابات الكراهية إما صادرة عن نائب يميني أو عنصري أو طائفي لم يبق أمامه من أمل للفوز بالمقعد النيابي سوى إشهار سلاح الكراهية ضد الآخرين. واللافت أنه سلاح فعال وقلما يخطئ هدفه. تذكروا سوزان وينتر، النائبة اليمينية في البرلمان النمساوي، التي حقّقت معها السلطات النمساوية بتهمة التحريض على الكراهية العرقية من خلال تصريحاتها المسيئة للنبي محمد والمسلمين في العام 2008. وفي العام ذاته اعتقلت حكومة ولاية أوتار براديش شمال الهند فارون غاندي، حفيد رئيسة وزراء الهند الراحلة أنديرا غاندي والمرشّح عن الحزب الهندوسي القومي بهاراتيا جاناتا، بتهمة «الإدلاء بتصريحات معادية للمسلمين» أثناء حملته الانتخابية. تذكروا كذلك الهولندي العنصري بيم فورتاون الذي نال حزبه في انتخابات مارس 2002 المحلية في مدينة روتردام حوالي 40 في المئة من أصوات الناخبين، فيما نال حزبه، بعد اغتياله في 6 مايو 2002، حوالي 6 ملايين صوت في الانتخابات التشريعية التي جرت في هولندا في مايو 2002. وفي هولندا كذلك هناك جيرت فيلدرز، زعيم حزب «الحرية» اليميني المتطرف ومنتج فيلم «فتنة» في العام 2008، الذي جرى التحقيق معه هذا العام بتهمة التحريض على الكراهية ضد الإسلام والمسلمين، والذي كسب حزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة حوالي 17 في المئة من الأصوات في هولندا، مما يؤهله لحجز أربعة مقاعد في البرلمان الأوروبي. وتذكروا كذلك الحزب القومي البريطاني المتطرف الذي حجز له مقعدين في البرلمان الأوروبي في الانتخابات الأخيرة. وما حققه حزب الحرية الهولندي والحزب القومي البريطاني من مكاسب انتخابية بسبب كراهية المسلمين والأجانب، يمكن أن نجد له نظائر في المكاسب الانتخابية التي حققها حزب «رومانيا الكبرى» اليميني المتطرف في رومانيا، وحزب «الحريات» اليميني المتطرف في النمسا، وحزب «الفنلنديون الحقيقيون» في فنلندا، وحزب «بوبيك» في المجر الذي قاد حملته الانتخابية الأخيرة للبرلمان الأوروبي تحت شعار «المجر للمجريين».
الكراهية هنا ليس وسيلة لتلاحم الجماعة والأمة كما كتب فرويد في العام 1930 (العام الذي صدر فيه كتابه «الحضارة وإحباطاتها»)، بل هي وسيلة فعالة لكسب المزيد من المصالح السياسية والانتخابية. لقد قدّم اليهود، بحسب فرويد، خدمة كبرى ضمنت التلاحم للشعوب والأمم التي بنت تماسكها من خلال تفريغ طاقة الكراهية باتجاههم، وأوروبا مثال جلي على ذلك. لم يعش فرويد ليرى الهولوكوست (توفي فرويد في 23 سبتمبر 1939 العام الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الثانية)، ولو عاش لعرف أن اليهود بعد الهولوكوست لم يعودوا يقدمون هذه الخدمة الكبيرة لأوروبا، حلّت كراهية المسلمين والأجانب محل معاداة السامية، وحلّت المكاسب السياسية محل حاجات الأمم الثقافية للتلاحم والتماسك. هذا تحول مهم سنحاول رصده وتحليله في المقالات المقبلة.
ومثل كل مرة، أجد نفسي مضطرا للتذكير بأنني بصدد كتابة متسلسلة متصلة، مع أني أعرف أن هذا النوع من الكتابة لا يتناسب مع الكتابة الصحفية، حيث تحضر المقالة كنص قائم بذاته بمعزل عن سياقه النصوصي الممتد قبله وبعده. وأعرف كذلك أن مطالبة القارئ بأن يرجئ حكمه على المقالة لغاية اكتمال السلسلة هي مطالبة في غير محلها، وهي بمثابة إلزام للقارئ بما لا يلزم في عالم الصحافة. وأعرف أن هذه كانت واحدة من المعضلات التي واجهتني في كتاباتي السابقة، وأنها ستعترض طريقي هذه المرة أيضا. لكنني واثق بأن الاطلالة على المشهد الواسع بجلاء في نهاية هذه السلسلة يستحق أن ننتظر ونتروى ونتريث ونتأمل في جزئيات هذا المشهد وهي تتجمع وتنتظم، شيئا فشيئا ومن جهات عديدة، لتكوّن المشهد العام لنهاية الكراهية، مع ضرورة التذكير بأن كل نهاية إنما تمهّد وترسم الطريق لبدايات جديدة، لكراهيات جديدة ستكون هي موضوعنا في المقالات المقبلة.
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2643 - الإثنين 30 نوفمبر 2009م الموافق 13 ذي الحجة 1430هـ
حسين المؤمن
سلام عليكم دكتور نادر .. وحمدلله على السلامة، ونتمنى ان تكون هذه السلسلة اكثر تشويقا .. فائدة ..
وكما يقال: إن طاقة الحقد لن توصلك الى مكان، لكن طاقة الصفح التي تتجلى في الحب، ستحول حياتك بشكل ايجابي..
دكتور .. اعتقد ان كتاباتك رائعة وذات قيمة عالية لكن تنقصها اساليب التشويق ...
تقبل انتقادي واتمنى لك من كل قلبي كل التوفيق ان شاء الله ..
تحية لشخصكم الكريم
يا دكتور نادر اسلوبك في الكتابه جدا جميل ومفهوم عند جميع المستويات...نتمنى بان تعرج بدقه على منطقة الخليج خصوصا والوطن العربي عموما...الكراهيه مجنده من اعلى الهرم الى القاعدة....ويصدرون تقارير واهداف عنها...
الكراهية لا تفيد !
مشكورين الله يودكم هناك ولا تسألين وين هناك أختار المكان اللي يعجبك تحياتي
اهلا
اهلا بطلعتك من جديد دكتور نادر نتمنى لك التوفيق.
مرحبا بهذه العودة
مرحبا بعودتك دكتور نادر بعد غيبة طويلة، وباين من البداية انك جايب غنايم كثيرة. المقالة مشوقة وممتعة وكعادتك رصين في الكتابة
تحية
عزيزي د. نادر. :كعادتك ، تتألق في الحديث عن المسكوت عنه. أتمنى لك التوفيق في إكمال هذه السلسلة المهمة. د. عباس كاظم - كاليفورنيا
موضوع مشوق
الحمد لله على السلامة
اتمنى ان اكون لك من المتابعين
في سلسلة الكراهية