رابعا: تاريخ من المجد والخطأ أيضا
كتاب فوزية مطر يقف بجلال أمام الصفحات المفعمة بالمجد لحركتنا الوطنية التي تفخر بأن رجلا بمعدن أحمد الشملان، الصلب، النقي هو أحد قادتها، وهي تأخذ بأيدينا إلى مناطق وزوايا مغفلة بالنسبة للكثيرين منا لتعرفنا على وجوه أحمد الشملان المناضل والإنسان والمبدع، وهي إذ تفعل ذلك تأخذنا نحو محطات نضال الحركة الوطنية البحرينية. لم يكنْ بوسعِ المؤلفة ألا تفعل ذلك لأن تاريخ الحركة الوطنية البحرينية منذ مطلع الستينات على الأقل لا يمكن أن يكتب دون الوقوف على دور أحمد الشملان في صناعة هذا التاريخ.
والكتاب ينبهنا ليس فقط إلى أن هذا التاريخ مجهول للأجيال الجديدة، وإنما هو مجهول أيضا لمناضلي تنظيماتنا الوطنية، وأن هذا الجهل بالتاريخ هو أحد أسباب بعض السجالات العقيمة التي أدخلنا أنفسنا فيها، نحن أبناء التنظيمات الوطنية، فإذا بالكثير من وقائع هذا الكتاب تبرهن على هشاشة أسباب هذه السجالات وعقمها، وأحيانا حتى انتفاء هذه الأسباب، وحين نقف على ذلك نشعر بمقدار الخسارة في الجهود التي أضعناها بلا طائل وبلا مبرر، وكان من نتيجتها الشقة التي أنشأناها بين تنظيماتنا الوطنية التي تراكمت واستحالت إلى معوقات للعمل الوطني المشترك.
ومن ذلك السجال الذي استغرقنا جميعا حول تاريخ بدء انتفاضة مارس 1965، أكان في الخامس من الشهر أم في الحادي عشر منه، ليتضح، من الكتاب، أن الخامس من مارس كان يوم جمعة، لا يذهب فيه الطلبة إلى المدارس، بخلاف ما قيل من أن الانتفاضة اندلعت في هذا التاريخ من مدرسة المنامة الثانوية.
تستند الكاتبة في ذلك إلى شهادتين مهمتين الأولى للمناضل علي الشيراوي أحد أبرز قادة الانتفاضة الذي يؤكد بأنه في يوم الاثنين 8 مارس حدثت أول محاولة لإخراج الطلاب من مدرسة الهداية وفشلتْ، أما يوم11 مارس فكانت أحداث ثانوية المنامة ودخلت الخيول على الطلاب»، أما الشهادة الثانية فأتت في ورقة بحثية أعدها الأستاذ علي ربيعة استنادا إلى الوثائق البريطانية، فبناء على تقرير بعثته الخارجية البريطانية الى سفاراتها وممثليها حول الأحداث في البحرين وردت المعلومات نفسها التي أكدها الشيراوي»( الكتاب ص 154، 155).
ويمكن لنا أن نقيس الكثير على هذا المنوال، فكم من الخلافات التي استغرقتنا وشتتت جهودنا بُنيت على أسسٍ واهية، لا بل ووهمية في بعض الأحيان، كما هو الحال بالنسبة لهذه الواقعة التي حدثت قبل أقل من خمسين عاما فقط، والشهود عليها أحياء، ولا تغرق في التاريخ البعيد الذي يصعب التحقق منه. وما يقال عن مارس 1965 يمكن أن يقال عن الموقف من انتخابات المجلس الوطني العام 1973 أو الموقف من انتخابات 2002.
هذا كتاب عن الألم الذي لن ننجو من الشعور العميق بفداحته في الكثير من مواضع الكتاب وصفحاته. ان المسيرة المجيدة للحركة الوطنية والشعبية البحرينية تعمدت بالكثير من الآلام والجراح والتضحيات، والتجربة الشخصية المعمدة بالألم لأحمد الشملان تقدم النموذج الحي على ذلك. وسيُدهش قارئ الكتاب من الصفحات الموجعة عما عانى منه أبوخالد، وبالطبع بقية المناضلين الوطنيين وزوجاتهم وأولادهم وعائلاتهم من بطش السلطة وعسفها، فيما كانت الأهداف والمطالب التي استلزمت كل هذه التضحيات الجسيمة تتمحور في الديمقراطية وإطلاق الحريات العامة وتحقيق المشاركة السياسية.
في بعض صفحات الكتاب تتحول فوزية مطر إلى كاتبة روائية وهي تصف أدق التفاصيل الإنسانية وأكثرها ألما، والموجع أن الكاتبة لا تتخيل أحداثا وإنما تصف وقائع حدثت، تفوق في دراميتها الخيال نفسه، مثل وصفها للحظات تفتيش منزلهم عند آخر اعتقال للشملان، أو لحظات لقائها واطفالها مع احمد وهو معتقل، أو معاناتها وهي تجاهد من أجل انتزاع موعد مقابلةٍ مع زوجها من وزارة الداخلية وما تتعرض له من مهانة.
سنحس بفداحة آلام احمد في كل المراحل التي يغطيها الكتاب، وهو يقسم حياته بين السجون والمنافي، وفيما بينهما من فسح في الاستغراق بالعمل النضالي الميداني وسط الناس، في قلب الحركة الشعبية مناضلا وقائدا وموجها وملهما. وفي الإجمال فإن كل البحرين وعلى مدار عقود تتكلم عن شجاعة الشملان وتضحياته، لكن من سيقرأون الكتاب سيقفون على تفاصيل ومقادير هذه التضحيات وجسامتها، من إنسانة هي أقرب الناس إلى هذا الرجل الفذ.
ستؤلمنا وربما تبكينا تلك الصفحات التي تتحدث عن الاعتقال المحير للشملان في سجن نايف بدبي نهاية 1969، الذي يظل في مقدماته وتفاصيله أشبه باللغز الكبير، وما تركه ما تعرض له من تعذيب على ذاكرته التي فقدها تماما، حيث ذهب رفيقه قاسم حداد إلى دبي لإحضاره من هناك، فوجده في حالة موجعة تثير الأسى: وقد وصف قاسم الصدمة النفسية التي عانى منها الشملان لهول ما تعرض له من تعذيب، عندما ذهب إليه في السجن بقوله: «كان أحمد متوجسا من أي غريب، كان شعره طويلا وثوبه متسخا، وكان نحيلا شاحب الوجه، قليل التذكر. أستطيع القول ان منظره كان منظر سجين من القرن التاسع عشر» (الكتاب ص 277- 278). ولكن أحمد الشملان، بالعزيمة الفولاذية التي عرف بها، سرعان ما استعاد صحته واستجمع قواه، ليعود مجددا إلى ساحة النضال الوطني بذات العزيمة والإرادة.
شعور مشابه سينتابنا ونحن نتتبع ما واجه الشملان في التسعينات، حين تتالت عليه الأزمات الصحية، من جلطة في القلب، إلى جلطة أخرى في الدماغ، شلت الجزء الأكبر من طاقاته. لكن الألم لا ينبع من سيرة الشملان وحده، وإنما من المعاناة الجمعية لشعبنا في تلك الحقب السوداء.
في هذا السياق أود أن أنقل الرواية التالية التي وردت في الكتاب على لسان المحامي علي الأيوبي عن جانبٍ من آلام مرحلة التسعينات: «في يناير 1995 قُتل في قرية الدرازالشاب عبدالقادر محسن الفتلاوي الذي كان عريسا جديدا، وكان خارجا تلك الليلة من منزلِ خطيبته ويهمُ بركوب سيارته، فجاءته رصاصة طائشة من الشارع الرئيسي للقرية وأودته قتيلا، لم يكن الفتلاوي وسط المظاهرة بل وحده والشارع خالٍ. في صباح اليوم التالي تنادى الناس وتجمعت جماهير غفيرة غاضبة لتشييعه. فجاءت المروحيات وسيارات الشغب وأحاطوا بالمقبرة، ثم هجموا على المشيعين دفعة واحدة واقتحموا غرفة المغيسل، المكان الذي تغسل وتسجى فيه جثة الميت، وضربوا الموجودين هناك وأصابوا الجثة نفسها، وبالنتيجة تدافع الناس هاربين من مسيل الدموع وتركوا الجثة»، ويواصل الأيوبي: لم أكن هناك، لكني عرفت الحكاية فيما بعد فذهبت للمقبرة لعلي أرى ما ذا جرى فوجدت والد القتيل وحده في المقبرة (...) في اليوم التالي التقيت احمد الشملان وقصصت عليه ما جرى فانفجر غضبا، وتوجه مباشرة طالبا لقاء وزير العدل. دخل الشملان على الوزير وقال له:»أنتم تطلبون منا السكوت وتأجيل تقديم العريضة... تفضلْ، هذا ما فعلتهُ قوات الشغب في المقبرة، هل هذا فعل صحيح»( الكتاب ص 570).
مثل هذه السيرة يجب أن تُكتب، وأن يعرف القاصي والداني مقدارَ ما قدمتهُ الحركةُ الوطنيةُ والشعبية البحرينية من تضحيات، وأحمد الشملان أحد أبرز قادتها ورموزها، حتى وان ما تحقق في البلاد اليوم من انفراجٍ سياسي وامني ومقدار من الحريات، ليس إلا ثمرة لهذه التضحيات، التي عبدت الطريق نحو التعيير، ومؤلمٌ أن الكثيرين ممن يتصدرون المشهد السياسي الراهن اليوم لم يقدموا ذرة واحدة من التضحيات التي قدمها احمد الشملان وحركتنا الوطنية.
إقرأ أيضا لـ "حسن مدن"العدد 2637 - الثلثاء 24 نوفمبر 2009م الموافق 07 ذي الحجة 1430هـ