يدور الإنسان في عدة عوالم تشكل حياته: عالم الطبيعة، وعالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم المؤسسات، وعالم الأشياء.
من السيرة النبوية تعلمت الأدب مع الله، والأدب مع البشر، والأدب مع الكون.. وأخيرا: الأدب مع الأشياء.
كان رسول الله رفيقا، رقيقا، وكان له تلطف بالناس.. وبالأشياء.
كان يخيط ثوبه ويخصف نعله..وكان يحب جبل أحد، ويخاطب مكة..
من قراءة هذا الخلق النبوي بدأت في اسكشاف علاقتي بالأشياء.
ولست بالتي تحب اقتناء الأشياء، فأسهل شيء عندي أن أهدي الناس أشيائي، فالأمر ليس حب تملك أو حرص على الدنيا، لكنني طورت مع الأيام شعورا بالأشياء من حولي.. وتقديرا لما توفره لي من راحة أو تعايشه معي من معاناة، وامتنان للأشياء التي تصنع عالمي اليومي.
أول علاقة قوية وحميمة طورتها بعد أن أدركت هذا المعنى في أدب النبوة كانت مع سيارتي الأولى. كانت سيارة فيات بيضاء صغيرة اشتريتها بعد التخرج من الجامعة من صديقة لأمي، وكانت بحالة ممتازة، تكفيني وأنا أستخدمها وحدي أو أحمل فيها صديقاتي أو ضيوفي أو طلابي، ولن أستطيع أن أسرد أسماء الشخصيات الشهيرة في الساحة الثقافية المصرية والعربية بل والدولية التي ركبت هذه السيارة المتواضعة معي فقد لا يصدق الناس، لكن هذه السيارة الأولى رغم أنها يمكن أن تباهي بمن حملت لكنها أيضا عانت مما تحملت، فقد أصابتها العديد من الضربات نتيجة عدم خبرتي بالقيادة في أول العمر، منها حادث شهير اشتبكت فيه مع حافلة للجيش من الحجم الضخم، واضح أن قائدها لم يرَ سيارتي أصلا وهو ينحرف في ملفِّ فأطاح بنا، لذا فأنا ممتنة لها لأنها صبرت معي في السراء والضراء، وحين كانت تبدو على وشك الانهيار كنت آخذها لعملية تجديد شاملة تعود بعدها كالعروس الجميلة. لكن الأيام دول، فصارت تضيق بأغراضي ومتاع بناتي المتراكم، وتعاني حين تتحرك ما بين شرق القاهرة وغربها لتشعب الأعباء وتنامي العلاقات وشبكة الأمكنة والدوائر، لذا كان لا بد من البحث - مضطرة -عن سيارة أكبر. أخذ الأمر وقتا للتفكير في من سأعطيه هذه السيارة الأثيرة، ولم أكن أبالي بما سيدفع بقدر أن يحفظها ويرعاها، فكان أن بعتها للميكانيكي الذي كان طبيبها الدائم منذ دخلت حياتي، أراد أن يأخذها لوالده، وبذلك ضمنت لها معاملة رجل كبير السن عاقل قليل المتاع ومحدود التجول. وأوصيته بها خيرا عند تسلمها، ومسحت عليها وودعتها شاكرة، وما زالت بعد ما يزيد عن الاثنى عشرة سنة في كنف هذا الرجل الصالح أتابع أخبارها وأرسل لها السلام.
تحضرني الآن ذكرى الكثير من الأشياء، لكن ربما أنتقي أن أذكر بالخير والعرفان غسالتي الفول أوتوماتيك الأولى. كان والدي قد اشتراها لي من أسرة نرويجية أقامت في القاهرة فترة ثم أرادت بيعها، ويبدو أنها دخلت معهم بتسهيل دبلوماسي أو شيء، وكانت أيضا شبه جديدة. كانت تحمل نسب وايت وستنجهاوس ولم يكن لها مثيل في السوق المصرية. أرادت والدتي استخدامها لكن أبي قرر أن يهديني إياها لتكون ضمن تجهيزات بيتي.
بقيت في غرفة نومه وتحولت لفترة إلى منضدة يضع عليها أشياءه بعد أن أحكم تغطيتها، وصاحبتني في مسيرة الحياة الجديدة حين انتقلت لبيتي الجديد قرابة الست سنوات. متينة، قوية، تعمل بلا كلل ولا ملل، وتزيل كابوس الملابس المتسخة وقد تدور أكثر من دورة في اليوم الواحد لأن الأطفال كانوا صغارا وحجم العمل كان ضخما. كنت أشعر أنها نعمة كبيرة أن عشت في عصر فيه مثل هذه الآلة لتوفر عليّ الجهد والوقت، وكنت أشعر تجاهها بالوفاء والامتنان لأن وجودها في حياتي يمنحني هذا الوقت ويوفر هذا الجهد، وصنتها جيدا مع أي وعكة أسارع ياستدعاء خبير، ولم يرَها منهم أحد إلا مدحها وأثنى على طيب أصلها..
لكن إرادة الله قضت أن أتركها خلفي حين تركت البيت والمتاع والأثاث للانتقال لسكن آخر، فكان لا بد من فراق، ولم يكن أداء الغسالة الجديدة بنفس الجودة، لذا فقد شاركني الحنين لها وتذكرها بالخير.. بناتي، فعند كل أزمة للغسالة الجيدية يعاتبنني على تركها وأتلقى اللوم لأني لم أحملها معي. وأحسب أنها مازالت تقوم بواجبها تجاه العالم في مكانها، وآسى على فراقها وأتذكرها بالخير..
لو استطردت في الأشياء الأخرى التي عبرت حياتي ربما لن ينتهي المقال، منها حقيبة حملتها حتى كادت تتوسل لي أن أودعها ، فقد كانت رغم حجمها المتوسط تحمل من الأشياء ما لا يخطر على البال، ولأنها كانت مفتوحة من أعلى فقد كنت أحشر فيها كل شيء حتى وإن بدا شكلها فوضويا تكاد أغراضي تتدلى منها، ورغم أنني اشتريت أخرى فما زلت أحتفظ بها.
آخر الأشياء التي تنازعني نفسي الآن لأتركها ترحل في هدوء هو حذاء اشتريته منذ عام ولم أغيره إلا في مناسبات محدودة، دفعت فيه ثمنا لا بأس به لأنه يحمل اسم شركة عالمية، لكنني وجدته في التنزيلات وقد خفضوا سعره للنصف فقلت لا بأس. ومنذ وضعت قدمي فيه وأنا أرتديه دائما، بل تغير دولاب ملابسي ليوافق لونه البني.
ولمن يستنكر أن أكتب في مدح حذاء فعليه أن يعلم أن الحذاء هو مصدر الراحة الأساسي لمن تسير كثيرا وتتحرك كثيرا بل وتسافر كثيرا مثلي. فليس مبالغة القول بأن راحة الجسم تبدأ من القدمين، وقد صحبني هذا الحذاء في أيام العمل وأيام الراحة، وفي الحر والبرد، حتى تشققت مقدمته لكن في موضع لا يلاحظه أحد فلم يؤثر هذا على استمراري في ارتدائه، حتى باغتتنا أمطار غزيرة في بيروت منذ شهر وكان عليه أن يحملني إلى الفندق فغمرته المياه وهو الرقيق الرخو غير المؤهل لهذا الجو وتبلل تماما حتى اضطررت لعصره ثم وضعته في الحقيبة وهو يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة وحملته للقاهرة، وتركته في دفء الشمس بضعة أيام وقد نويت إحالته للتقاعد بعد أدائه المبهر ووفائه النادر، لكنني التقطته بسرعة وأنا في طريقي للخروج لألحق بطائرة إلى روما حين وجدت الحذاء الجديد في غرفة أمي وكانت نائمة ولم أرد إزعاجها، فاحتضن قدمي بشوق وانطلقنا ليقضي معي يومين في تلك المدينة التاريخية المذهلة. تجول بي في شوارعها التي تشبه المتحف المفتوح وحضر معي اجتماعا عن الديمقراطية وتفعيل الناس من أجل التغيير، وعاد بي للقاهرة في سلام.
لكن حالته لم تعد تسمح بارتدائه لأن الشق اتسع ، ولا يمكن إصلاحه لأنه في المقدمة، لكن من فرط راحة قدمي فيه جلست أفكر في كيفية الاحتفاظ به، وقررت أن أضعه في سيارتي لأرتديه أثناء القيادة. وهكذا ستمتد صحبتنا بعض الوقت، وأنا سعيدة بتلك الفكرة التي ستمكنني من إطالة أمد هذه الصحبة المريحة.
لا تتحدث الأشياء إلينا رغم أن كل الأشياء تسبح، لذا لا نعرف شعورها تجاهنا، لكنني أردت أن أكتب اليوم عن شعوري بالسعادة والوفاء لكل شيء دخل حياتي وأسدى لي معروفا وخفف عني حملا وسهّل علي أيامي.
ورغم الفراق تبقى الذكريات، فراش الطفولة الدافئ، وحقيبة المدرسة الأولى التي أهداها لي والدي، وخيالات أول دمية، وأول ساعة يد، وأول دفتر مذكرات... وأول هاتف نقال.
رحم الله من أهدى لي، ورحم الله أشيائي التي كانت لي، وتحملتني، ثم رحلت بعد أن صنعت تفاصيل عالمي اليومي.
رحم الله كل هذه الأشياء.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2630 - الثلثاء 17 نوفمبر 2009م الموافق 30 ذي القعدة 1430هـ
لفد سمي ابني دميته بنفس الاسم
الدكتورة الفاضلة/تحية طيبة جدا جدا
ما أرق الكلام خصوصا حين يتحدث عما تحمل من مشاعر. انا احب الاشياء مثلك تماما بل واشعر انه جزء من الانتماء، كأن أشرب الشاي في كوب واحد أو أربت علي بنطلون قديم حين أودعه بل و احزن لفقدان قلم أصيل وربما كمبيوتر. في طفولتي أتذكر دمية كنت أسميها محمود و احضرت لابني مثلها حين بلغ الرابعة. وذات مساء راقبته وهو يداعب الدمية و سألته بأمل و ترقب و مشاعر أخري لا أعلم اسمها، سألته: هو الدبدوب ده اسمه ايه؟ فقال: محمود. لا أريد أن أصف مشاعري حينها حتي لا ينعتني أحد بجنون