يطلق ابن رشد على توارث المهن مصطلح التناسل الطبقي أي «أن كل طبقة تتناسل ضمن طبقتها الخاصة بها». فالحراس يتناسلون ضمن طبقتهم كذلك طبقة الفلاحين «لأنهم معدون لعملهم الخاص بهم بالطبع». ويتحفظ على هذا الرأي ويرى فيه بعض «تناقض في القول» لأنه من أسباب فناء المدينة (الدولة) وهلاكها «أن يكون شخص ما يقوم بالعمل فيها وهو غير راغب فيه بطبيعته» (ص102). وبالتالي يميل، رغم تأييده نظرية توارث المهن طبقيا، إلى عدم إجبار ابن طبقة على مزاولة مهنة لا يريدها. كذلك يعارض أفلاطون في مسألة امتيازات حراس الجمهورية (المدينة) إذ من غير الجائز «أن نضفي على الحراس امتيازات مطلقة تبعدهم عن واجباتهم، لأنهم سيظنون أن المال والثروة فضيلة بطبعهما» (ص107). كذلك يعارضه في مسألة التبادل (الشراء والبيع) فهو يرى أنها نقطة ضرورية لبقاء المدينة وتماسكها وبالتالي لابد من نقود (فضة وذهب) وإلا لن يحصل التبادل في حال انتفت الحاجة و «عندها لابد من وجود شيء ما لإجراء التبادل» (ص108).
يخلط ابن رشد في كلامه رأيه بأفكار أفلاطون، فهو يقوم بدور عارض آراء غيره (يقول أفلاطون) ثم ينتقل إلى لعب دور الشارح ثم ينتقي في النهاية فكرته من دون توضيح ويكتفي أحيانا بمقابلة الآراء ولا يتوصل إلى خلاصة نقدية حاسمة تميز خطوط تفكيره عن مفاهيم غيره. فهو يتحدث، مثلا، عن فائض الإنتاج وكيف يتم تخزينه بمستودعات خاصة في المدينة «لكي يوزعوها بين الناس كل حسب احتياجه منها ومن أي نوع» (ص109) ثم يتحدث عن التبادل البضاعي والتبادل النقدي. ويفترض قانون التبادل (تبادل الحاجات من دون توسط النقود) أن يستمر عدد العاملين في مهنة محددة من دون تغير لأن الزيادة تعني زيادة الإنتاج وحصول فائض في سلعة معينة على الحاجة فيتعطل توازن السوق. ويحدث أحيانا «أن يكون هناك في زمان واحد قلة من بعض الأشياء، في حين تحدث وفرة في زمان آخر» (ص106). ولا يعالج ابن رشد هذا الخلل وكيفية السيطرة على قوانين السوق ويتركها من دون جرح أو تعديل لينتقل إلى مسألة أخرى وكأن وظيفته هي النقل وعرض آراء أفلاطون ومقاربتها أكثر مما هي قراءة نقدية في أفكار الجمهورية.
لا يتدخل قاضي قرطبة إلا في الحدود المتاحة ويستنجد كثيرا بأرسطو لإعادة تقدير موقف أو تركيز فكرة يبدو أنه غير مقتنع بها خصوصا عندما يتطرف أفلاطون في أفكاره ويتجه إلى نوع من «المشاعية» في العلاقات البشرية أو التبادل الاقتصادي أو استخدام النقد وتصريف الفائض عند وفرة الإنتاج أو تأمين الناقص، عند انخفاض الموارد أو حصول حرب. فأفلاطون يستبعد حصول حرب مع المدن المجاورة (الدول) لكن ابن رشد يعلق على رأي أفلاطون ويتهمه بالتردد والشك، خصوصا عندما بحث المسألة و«أصبح لديه اقتناع بأن الأمر يكون على خلاف ما اعتقده تماما» (ص110). ويطرح استنادا إلى تقسيم أفلاطون أنواع المدن إلى غنية وفقيرة وتضاد مصالح الفئتين وبرأيه أن الجماعات الفقيرة «التي سكنت في الصحراء من أهل الوبر، وملكت الجمال القليلة، أنها قادرة على أن تقهر وبسرعة الجماعات والمدن الغنية المسالمة والسلمية، مثلما فعل العرب في مُلكِ فارس» (110).
يضع قاضي قرطبة ملاحظة تنبه القارئ إلى أن تلك المدينة المثالية التي يتم الحديث عنها غير موجودة إذ «لا توجد هناك مدينة واحدة تُدعى مدينة فاضلة سوى تلك المدينة التي نريد القيام بتأسيسها وتنظيمها» (ص111). فالمدينة الفاضلة غير موجودة والآراء عنها مجرد أفكار عامة لنموذج مفترض في المستقبل بينما يضم الحاضر المدن المتعددة والمختلفة حتى لو كانت «المدينة فيها تُدعى مدينة واحدة». فالمدينة المرجوة التي «ننوي إنشاءها وتنظيمها مدينة عظيمة جدا بحد ذاتها، وتملك حكومة عظيمة، وإن كان لا يوجد فيها أكثر من ألف مقاتل» لكن هؤلاء المحاربين أقوياء و «يغلبون ألفين» (ص112). ويقترح ابن رشد، بناء على فرضيات أفلاطون، أن لا تكون مساحة المدينة كبيرة جدا «فلا نستطيع تلبية حاجاتها من الغذاء وما شابه ذلك» كذلك يجب أن لا تكون مساحتها بالضرورة صغيرة جدا «حتى لا يتم التغلب عليها من قبل المدن المجاورة» (ص112).
تختلف مساحة المدينة وشروط قيامها «بحسب الزمان والمكان ناهيك عن الأمم من المجاورة لنا». ويربط المساحة بالأمن ومن ناحية القدرة «على الحكم السياسي» ويستنتج فرضية تقول «إن الحقائق المستمدة من التجربة تضعف ما لم تكن لها صلة بالواقع» (ص113). فابن رشد متردد بين الكلام المجرد عن مدينة مفترضة وبين واقع مغاير ومختلف في زمانه ومكانه لذلك فهو يشرح أفكار أفلاطون ويعارضها بخجل مستخدما أرسطو في أكثر الحالات وجالينوس في حالات محددة. وأحيانا يعلق على أفكار أفلاطون عندما لا يريد مجاراته إلى النهاية خوفا من انقطاع حبل الاتصال بين الشريعة والحكمة. لذلك يعلق النقاش على موضوع مساحة المدينة لأنه «لمن الملائم لكل واحد من هذه الأمم، أي لكل أمة بمفردها، أن تكون لها مساحة محدودة» أخذا في الاعتبار اختلاف البشر وطبائعهم واختلاف المناخ إذ إن للمناخ أثره في تحديد «الفروق بين طباع البشر وألوانهم» (ص113).
يضع ابن رشد الملاحظات الخلافية نفسها على مسائل التشريعات والدساتير والقوانين ويبدو عليه التردد والحذر في أخذ أفكار أفلاطون إذ برأيه ليس «من الصحيح تشريع الدساتير الجزئية في مثل هذه الحالات، كما لا يجب فعل ذلك». وإذا وضعت الدساتير العامة بصورة ثابتة فإن الأمر «يعود إلى أهل المدينة» لأن الإنسان ينجذب إلى «ما تمليه عليه تربيته وتهذيبه وميوله الخاصة» (ص114). ويجب على من يريد وضع هذه الدساتير الجزئية «أن يستمرمعظم حياته الدنيا في تحسين جوهر هؤلاء الناس». ويحبذ لتدارك الخلل أن توضع أولا «الدساتير العامة» وبعدها يتم استخلاص الدساتير الجزئية. ويحاول عندما يصل إلى مفهوم العدل في جمهورية أفلاطون شرح موقفه بإعادة تذكير القارئ بمجمل المواقف المتعلقة بالفضائل والشجاعة والحكمة والعلوم والدستور والمشورة والصناعات العملية (الفلاحة والتجارة) ومعرفة الغاية الإنسانية. فالمدينة يجب أن تملك العلوم النظرية والعملية معا والفئة التي تملك الحكمة تكون عادة قليلة العدد وأفرادها هم الفلاسفة وطباعهم مختلفة عن طباع من يمتلك الصناعات العملية. ويخالف أفلاطون عندما يتحدث عن العفة والعدالة فبرأيه أن فضيلة العفة غير قاصرة على فئة واحدة من الناس «بل هي عامة للجميع من حكام وجمهور». ويجب أن تكون ممتدة في المدينة (الدولة) كلها «لأنها تبعث على الوفاق بين أهلها» وتقصي «ما هو مضاد لذلك» (ص119).
بعدها يدخل ابن رشد إلى مسألة العدالة «التي تمنح البقاء والديمومة للمدينة مادامت قائمة فيها» وتوصف المدينة بالعادلة «عندما يكون فيها أناس عادلون، لأن العدالة موجودة في كل فرد من أفرادها». ويطلق على هذا النوع من العدل «العدالة السياسية» (ص119). فالظلم يرتكب في المدن التي تنتفي فيها هذه العدالة.
يخلط القاضي التائه رأيه بأفكار أفلاطون ونجد صعوبة في معرفة ما يريد من خلال تلخيصه لكتاب الجمهورية، فهل هو يوافق أم يعارض أو يعرض آراء. فالمسائل مبهمة وغير واضحة. أفلاطون مثلا يرى أن انهيار المدينة يبدأ عندما ينشأ كل واحد من أفرادها «على أكثر من صناعة أو حرفة واحدة، وينتقل من حرفة إلى أخرى ومن طبقة إلى أخرى». (ص120). ولا يظهر القاضي المتردد بين عقيدته ومطالعاته أنه يعارض أو يوافق ويكتفي بالتعليق «وهكذا يتضح من هذا القول في ماهية العدالة أنها شيء موجود في كل أجزاء المدينة». وينتقل فورا إلى بحث وجود العدالة في الفرد إذ إن المطلوب هو «العدالة والمساواة في نفس الفرد يجب أن تكونا هما نفسهما في المدينة» (ص120).
ويستعرض نظرياته بشأن القوى الثلاث الموجودة في النفس (الفرد) وتتوزع إلى عاقلة وناطقة وغاضبة وهي «موجودة في المدينة» وما التوافق والعدالة في نفس الفرد إلا «ذاتهما التوافق والعدالة في المدينة» (ص122). ويحصل التعدي والظلم عندما تنتفي هذه الصفات في المدينة فتتحول من «فاضلة» إلى «جاهلة». ولهذا السبب يرى أن «المدينة الفاضلة» واحدة «بينما المدن الجاهلة عديدة ومتنوعة» (ص123). والمدن الفاضلة تقوم على نمطين من الحكم: ملكي و «يقوم رجل واحد على رئاستها» وارستقراطي ويقوم عليه «أكثر من رئيس» (ص123).
يأتي على توزيع العمل والوظائف بين الرجل والمرأة في المدينة الفاضلة وينفرد ابن رشد برأيه ويتوسع فيه باستقلال عن هيمنة أفلاطون ويرى أن النساء «متساويات مع الرجال بالنوع ومختلفات معهم بالدرجة فقط». فالنساء من كل الطبقات «متساويات مع الرجال فيما يعني كل فعل وأمر». ولا نعدم أن نجد بينهن «محاربات وحكيمات وحاكمات وما شابه ذلك»... وسوف يمارسن في مدينته «أعمال الرجال عينها سوى تلك التي لا يقدرون عليها». فالنساء يتشاركن والرجال في المهن «سوى أنهن أضعف في ذلك، وإن كنَّ في بعض الفنون أكثر كفاءة من الرجال مثل فن النسيج والحياكة وغير ذلك» (ص124). وينعطف ابن رشد في بحثه ويخرج على نص أفلاطون ويبدأ بمقارنة وضع المرأة في زمنه وتصور الإسلام عن المرأة ودورها. وينتقد الآراء الشائعة في زمنه عن المرأة التي لا تجد فيها سوى «نباتات» ومخصصة للإنجاب والرضاعة والعناية بالولد وأحيانا «عالة على الرجال» (126). ويعارض فكرة أفلاطون عن مشاعية المرأة ويرفض أن تكون النسوة مشاعا لكل الرجال، انطلاقا من الشريعة الإسلامية التي تصون حرمة المرأة والرجل وتحدد العلاقات الأسرية ضمن قوانين واضحة؛ لأن المشاع في مسألة تعني أيضا قبول المشاع في موضوع الأطفال وتربية الأولاد وأخيرا الموافقة على تفكيك الأسرة وغيرها من شئون حياتية. وينبه ابن رشد القارئ إلى أن أفلاطون في مقالاته عن التربية والتعليم والإنجاب والحرب وكيفية الجمع بين الواحد والآخر لم يضعها لكل أهل المدينة و «إنما حصرها فقط بالحراس» (136). بينما عالج أسلوب التربية للفئات الأخرى بوسائل مختلفة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2625 - الخميس 12 نوفمبر 2009م الموافق 25 ذي القعدة 1430هـ