بادئ ذي بدء، لابد من كلمة شكر لمركز دراسات الشرق الأوسط ورئيسه جواد الحمد على المبادرة بطرح موضوع مشاريع التعبير في المنطقة العربية ومستقبلها والشكر موصول لمجلة «المجتمع» الكويتية على المشاركة في رعاية المؤتمر.
ثمة ملاحظة مهمة، وهي أنه على رغم أن المركز يحمل اسم مركز دراسات الشرق الأوسط إلا أنه ركز في المشروعات المطروحة للتغيير على المنطقة العربية، ربما لأن مشروع الشرق الأوسط الكبير أو العريض الذي طرحته الولايات المتحدة العام 2004، قد أخفق وتخلى عنه أصحابه بعد وصول أوباما للسلطة، وربما لإحساس المنظمين بأن الدول الثلاث الرئيسية في الشرق الأوسط وهي «إسرائيل» وإيران وتركيا كل لها مشروعها الخاص بتغيير وتطوير أوضاعها، وأن كلا منها يسعى لتغيير الآخرين، في حين أن المنطقة العربية ليس لها مشروع حقيقي فاعل وإن كانت لها شعارات باهتة في القول والفعل، وإنها ذاتها موضع التغيير من الآخرين وهدفه، وربما لاقتناع المنظمين بالقول الوارد في القرآن الكريم «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» (الرعد: 11) ومن ثم كانت حقيقة المؤتمر وشعاره أن الآخرين من الدول الكبرى العالمية ومن الدول الإقليمية يسعون إلى تغييرنا بما يحقق مصالحهم، فهلم أيها العرب والمسلمون إلى تغيير أنفسكم من داخلكم بمشروع عربي إسلامي.
وإذا نظرنا إلى البيان الختامي الصادر عن المؤتمر وإلى الرؤية الأستراتيجية، سوف نلمس بوضوح عدة حقائق:
الأولى: إن المشاريع الدولية والإقليمية غير العربية هي الأكثر تأثيرا وخطورة على المنطقة العربية.
الثانية: إن المشروع العربي والمشروع الإسلامي هما الأكثر غيابا وضعفا وتهميشا سواء من حيث الفكر أو العمل أو من حيث المعبرين عنه دولا أو تيارات سياسية أو مفكرين. مع ملاحظة أن المشروع الإسلامي - من وجهة نظري - مشروع ملتبس لاعتبارين، أولهما: إنه يخلط السياسي بالديني، وثانيهما: إنه يخلط الوطني والقومي مع الإقليمي. ولذلك حسنا فعل المنظمون والمشاركون في صياغة ما أطلق عليه الرؤية الاستراتيجية بالحديث عن مشروع عربي إسلامي، وعن رؤية عربية إسلامية، ونهضة عربية إسلامية. بعبارة أخرى، أراد المشاركون في المؤتمر التأكيد على أن البعد الإسلامي هو في إطار عربي، وليس في إطار إسلامي سياسي أي أنه قاصر على العرب المسلمين كمشروع نهضوي لأن المسلمين غير العرب لهم رؤاهم وطموحاتهم ومشروعاتهم.
الثالتة: إن الرؤية الاستراتيجية للمؤتمر صيغت بلغة ذات طابع عملي براغماتي وواقعي في الوقت نفسه فهي حللت عناصر القوة ومصادر الضعف في المنطقة العربية، وحللت التحديات والمخاطر التي تواجهها من المشروعات الأخرى، ورتبت الأولويات من حيث المخاطر، فالمشروع الصهيوني الأميركي الأوروبي أي المشروعات الثلاثة المترابطة تمثل المخاطر الكبرى، والأولى من حيث الأولويات. يلي ذلك المشروع الإيراني الذي له مخاطر ومزاياه، وأخيرا المشروع التركي وفي تقدير معظم الباحثين أن مزاياه أكبر من مخاطره حتى الآن. أما المشروعات الروسية والصينية والهندية فإنها ذات توجه اقتصادي وليست تسعى حاليا للتغيير أو السيطرة على المنطقة وإنما الاستفادة من الكعكة الاقتصادية والثروات والمصادر الطبيعية والأسواق ومن ثم فلا تمثل حاليا خطورة وقد تظهر المخاطر في المستقبل.
وفي تقديري كمشارك في المؤتمر وكمتابع لمداولاته ولأحداث المنطقة العربية منذ أكثر من خمسين عاما عندما أصبحت واعيا ومدركا للأحداث من حولي أي منذ منتصف الخمسينيات في القرن العشرين عندما سرت وآخرون في مصرنا الحبيبة، وآخرون في الوطن العربي الكبير نهتف مع ثورة 1952، فليسقط الاستعمار ونطالب بالجلاء ونطالب بالوحدة أو الاتحاد العربي، ونهتف لتأميم قناة السويس، وإجلاء القواعد الأجنبية من مصر، والخروج الاستعماري من الدول العربية تباعا، ونشعر بأن أهدافنا في طريقها للتحقيق، وأن الأمة العربية ذات القلب النابض والقيادة الرائدة في طريقها للتبلور، والتحول إلى قوة سياسية واقتصادية وعسكرية فاعلة، وفجأة بدأت الأوهام تتساقط فتحالف الاستعمار وقوى عربية للقضاء على أول أمل للعرب، ووقع الانفصال تحت تأثير الشركة الخماسية في سورية، ودور محلي عربي، ودور دولي يرفض الوحدة العربية. ثم جاءت الضربة شبه القاضية بهزيمة يونيو/ حزيران 1967، والضربة القاضية بهزيمة نفسية عربية أدت إلى شل الإرادة العربية، وهذه هي الأخطر، حيث تحولت الثروة النفطية لأداة تقسيم العرب بين دول الثروة ودول الثورة أو بين أغنياء العرب بالمال وأغنياء العرب بالفكر والرجال، وكان يمكن تحالف الاثنين، ولكن حدث العكس، وتمزقت أوطان العرب نفسيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وتعززت الحدود بين الدول العربية في الوقت الذي تلاشت فيه بين دول أخرى في مناطق أوروبا وغيرها.
لاشك أن ضعف الرؤية الاستراتيجية العربية وربما فقدانها هو الذي قادنا إلى هذه الحال المتدهورة. هذا الضعف أو الغياب هو الذي دفع الرئيس المصري أنور السادات للانطلاق نحو السلام مع «إسرائيل»، عندما رفض إخوته العرب تقديم الدعم له لإصلاح أوضاع مصر الاقتصادية المتدهورة بعد حروبها مع «إسرائيل» وظهر المصطلح السياسي الذي تحدث عنه الكثيرون سرا، وأحيانا صراحة ولكنهم طبقوه واقعا (إن العرب يساعدون مصر للحيلولة دون انهيارها وبالقدر الذي يحول بينها وبين استعادة القوة التي كانت لها)، و(إن القتال هو مسئولية مصر وإلى حد ما سورية). أما الباقون فدورهم المساندة والتحريض والشماتة ونحو ذلك. كان هذا الواقع النفسي العربي من أقصاه شرقا إلى أقصاه غربا، لأن الجميع رفض أمرين: أن تكون هناك قيادة مصرية، احتجاجا على ما حدث في الفترات الأولى للقيادة المصرية الناصرية، والثاني ألا تكون هناك إرادة عربية موحدة، فضلا عن ألا تكون هناك وحدة عربية أو مسعى نحوها. ولا مانع في هذا الإطار من توجيه الاتهام لهذا الطرف أو ذاك، ولعجز مصر وخروج مصر أو قياداتها أو ضعف مصر وهزيمتها، ولا مانع في العودة لمصر إذا حزب العرب أمر، كما حدث في حرب العراق ضد إيران كانت مصر مع أوائل المساندين للعراق، رغم القطيعة العراقية لمصر، أو في محاصرة «إسرائيل» لياسر عرفات والفلسطينيين في لبنان العام 1982، رغم أن عرفات كان من المحرضين ضد مصر.
نقول إن نجاح قوى ونخب عربية في ضياع مكاسب نصر 1973 - وعندما نقول عربية لا نستثني مصر فهي عربية دما ولحما وأبا وجدا - فالجميع متهمون بالتقصير والإهمال وسلب الإرادة العربية وهي عملية تراكمية تبادلية بين الجسد العربي والقيادة المصرية.
وتطلع البعض للقيادة بإزاحة مصر ولكن المأساة كانت أكبر، والخطر تفاقم، والضعف ازداد، وسقطت شعارات الرفض والصمود والمقاومة، وأصبحت شعارات فارغة بلا مضمون فلم يتحرر شبر عربي بتلك الشعارات الخاصة بالصمود والمقاومة والممانعة وغيرها. وظلت المقاومة تنبض نبضات من حين لآخر وتساعد المتغيرات الدولية لانسحاب «إسرائيل» من جنوب لبنان، وإقامة هدنة فاعلة ونافذة على الحدود الإسرائيلية السورية ثم اللبنانية وغيرها من صيحات باهتة من حين لآخر على الحدود اللبنانية، حيث تحول لبنان دون غيره إلى رهينة لإرادة عربية وإقليمية وصراع الآخرين على أرض لبنان. وجاءت الطامة الكبرى بتحول العراق كرهينة لقوى إقليمية وعربية ودولية، وعاد الاحتلال الأجنبي والقواعد الأجنبية على أرض العروبة وخليجها الثائر، كما كانت الطروحات في الخمسينيات والستينيات. وكما قال رئيس ووزير عربي خليجي برؤية ثاقبة عندما قيل له عن العروبة وشعاراتها أيام زمان، فكان جوابه من قول أم كلثوم (قل للزمان ارجع يا زمان)، وتحول العرب إلى جثة هامدة رغم ثرواتهم ورغم إمكانياتهم، لأنهم فقدوا الإرادة المستقلة، والاحترام الذاتي في عصر لا يفهم العالم إلا لغة القوة، ورحم الله جمال عبدالناصر عندما أطلق شعاره (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة)، أو صدق الله العظيم في قوله تعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» (الأنفال: 60). ولدينا الآن من الخيل أي الأسلحة الكثير، ولكنها ليست في رباط بل في مخازن ونوجهها ضد بعضنا البعض.
وأصبحنا نعيش فيما يمكن أن نسميه بالقابليات الخمس وهي: القابلية للاستعمار، والقابلية للتبعية، والقابلية للتجزئة، والقابلية للعمل ضد بعضنا البعض وإحباط بعضنا البعض، والقابلية للجمود وخداع النفس.
الرؤية الاستراتيجية لمؤتمر مشاريع التغيير هي صيحة من مثقفين ومفكرين، ولكن تحقيق هذه الرؤية في حاجة لإرادة سياسية لا يملكها إلا قادة الدول، والمسافة بعيدة بين الطرفين. بل إن المثقفين العرب أنفسهم في حالة انهزام أمام القابليات الخمس نفسها السابق ذكرها، وكان بعض الحوار في مؤتمر عمان لمشاريع التغيير هذه دليلا على ذلك. فالكثيرون يتحدثون عن ضرورة القيادة، وأن تعود مصر لدورها القيادي، ولكن لم يتحدث أحد كيف ذلك؟ وما هو دور باقي الأعضاء؟ ولم يدرك كثيرون أو ربما أدركوا ولا يرغبون في التحدث عن ذلك، ما هو الوضع الاقتصادي والسياسي العربي بما في ذلك المصري؟ وهل يستطيع القائد أن يقود إذا كان الآخرون يعملون بإرادتهم المنفردة مهما كانت صغيرة أو كبيرة؟
إن هذا ما يدعوني لإطلاق الدعوة للعودة للنقد الذاتي من قبل المثقفين قبل السياسيين، فالكثيرون يستريحون عندما يطلقون شعارات، ويطالبون الآخرين بالعمل دون إدراك المقومات الحقيقية في كل دولة، ودون إدراك القابليات الخمس المشار إليها، وهي أن العمل العربي أصبح يعمل ضد بعضه البعض، والعمل الفلسطيني يعمل ضد بعضه البعض، والحوار هو بلغة الاتهام للآخر بالعمالة والخيانة والتآمر، وليس بلغة اختلاف الرؤى واختلاف الأدوات، كما يحدث في الصراع السياسي داخل «إسرائيل»، أو داخل دولة أخرى إقليمية مع وحدة حقيقية للهدف. فإذا كان البعض يعمل ضد وثيقة المصالحة الفلسطينية رغم كل جهود مصر فكيف يمكن أن تكون هناك قيادة في مثل هذا الوضع؟ وإذا كان كل قائد عربي يرى في نفسه الصدق والأمانة والنزاهة والرؤية الصائبة، ويرى في الآخرين العكس ويتخندق الجميع على هذا النحو فكيف يمكن أن تكون هناك قيادة للعرب؟ إننا عدنا لعصر ما قبل قدوم الإسلام عندما كانت القبائل العربية تتصارع مع بعضها البعض، أو في عصر ملوك الطوائف في الأندلس في عملهم ضد بعضهم بعضا والانغماس في ذلك حتى تم القضاء على الأندلس.
لقد جاء مؤتمر عمان لمشاريع التغيير صيحة إيقاظ للعرب جميعا فهل يسمع المثقفون؟ وهل يسمع القادة ويدركون الخطر القادم أم على قلوب اقفالها ولا نستيقظ إلا ضحى الغد وندرك أن زرقاء اليمامة كانت أنذرتنا ولم نستمع لقولها ولم نصدقها.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2623 - الثلثاء 10 نوفمبر 2009م الموافق 23 ذي القعدة 1430هـ