بعد خمسة أشهر من الاتصالات والمداولات اقترب موعد إعلان مولد الحكومة اللبنانية الجديدة. فالحكومة التي انتظرها اللبنانيون هي الأولى بعد الانتهاء من الانتخابات النيابية وفوز لوائح 14 آذار بالأكثرية النسبية. ولكن تأخر تأليف الحكومة جاء بسبب تعقيدات الوضع اللبناني التي لا تسمح بنمو قانون سياسي يتجاوز تضاريس التركيبة البشرية ونظام المحاصصة. فالواقع أقوى من الطموحات الأيديولوجية لأنه يتحكم بآليات إنتاج السياسة وفق ما تقتضيه الخريطة الطائفية - المذهبية التي تتشكل منها بلاد الأرز.
بعد خمسة أشهر من الاستشارات سيستمع اللبنانيون إلى الأنغام والألحان نفسها مع تعديل في الأسماء. وزارة الدفاع للروم الأرثوذكس، الخارجية للشيعة، الصحة للشيعة، المالية للسنة، التربية للسنة، الصناعة للموارنة، السياحة للموارنة، الاتصالات للكاثوليك، الطاقة للأرمن، الأشغال للدروز... إلى آخر الحلقات العصبية الضيقة. فكل وزارة لفئة وأحيانا تنتقل إلى فئة أخرى بشرط أن تكون مختلف الأطياف والتكوينات الأهلية متمثلة في الهيئة المركزية التي تشرف على إدارة البلاد لمدة زمنية لا تتعدى السنتين في أحسن الحالات.
التقسيم الوظائفي للطوائف والمذاهب اللبنانية تحول في العقد الأخير من الجمهورية إلى ميزان لقياس العدالة في نظام المحاصصة. وأدى التقسيم إلى مزيد من التشطير السياسي بين الأصدقاء والحلفاء حتى في إطار التكتلات النيابية والمجموعات الحزبية. تيار الجنرال ميشال عون يريد وضع يده على مختلف مفاتيح الوزارات المقررة للموارنة حتى لو أدى الأمر إلى استبعاد تيار المردة (النائب سليمان فرنجية) من الحقائب السيادية. وحزب القوات اللبنانية يريد حصة موازية أو على الأقل تلك المواقع المهمة (وزارة العدل) حتى لو أدى الأمر إلى استبعاد الحليف الماروني القوي النائب بطرس حرب.
هذا التعقيد الوظائفي في إعادة هيكلة كل حكومة لبنانية يفسر إلى حد معين الأسباب التي تدفع بالاستشارات إلى الهدوء والروية في توزيع الحصص ما يساهم في تأخير الإعلان عن الأسماء النهائية. التأخر لا يعود دائما إلى عوامل دولية وإقليمية فهناك أحيانا مجموعة عناصر محلية تلعب دورها في تطويل المفاوضات حتى لا تكون الخطوة ناقصة وتؤدي إلى إثارة مشاعر الطوائف والمناطق والمذاهب والتكتلات النيابية والسياسية.
الجانب الدولي - الإقليمي يساهم في التأثير والتعديل أو التأخير والتسريع. وهذا أمر طبيعي في بلد تتكاثر فيه العصبيات الأهلية الممتدة إلى الجوار القريب والمحيط الجغرافي البعيد. فالبلد مفتوح على آفاق الأقاليم ولعبته السياسية مكشوفة ويصعب تغطيتها بالكلام الشفاف عن «الوطنية» و«الحرية» و«السيادة» و«الاستقلال». واقتصاد البلد يعتمد أساسا على الخدمات والخدمات فيه متنوعة تبدأ بالتجارة والاقتصاد والسياحة والمصارف وتنتهي بالسياسة والتوظيفات والتوكيلات الإقليمية.
أهمية الفضاء الخارجي لا تلغي تلك الجوانب الداخلية (الأهلية) التي تلعب الجماعات السياسية دورها الخاص في إضفاء الطابع الطائفي - المذهبي على كل قرار إداري تتخذه الحكومة ضد وزير أو سفير أو موظف. وبسبب هذه التعقيدات الوظائفية للتكوينات والأطياف المحلية كان من الصعب على السلطة إجراء إصلاحات إدارية ما أدى إلى نمو تضخمي في عدد العاملين في الوزارات وتحميل الموازنة الكثير من الأعباء المالية.
مشكلة لبنان ليست في الحكومة التي لا تستطيع أن ترى النور خارج الائتلافات الطائفية والمذهبية وإنما في نظام دستوري تعتمده الدولة ويتأسس على قاعدة توزيع الحقائب على مختلف الأطراف ضمن حسابات رياضية ونسبية دقيقة تطمح إلى إرضاء الجميع وعدم إغضاب أحد. وهذا النوع من التوحيد يساعد أحيانا على تفكيك المنظومة الوطنية وتوسيع رقعة الوظائف حتى تستطيع أن تشمل كل الألوان والألحان. وبسبب هذا التوسع الخدماتي للحقائب أصبحت الحكومات متضخمة لا تقل عن 30 وزيرا حتى تستطيع أن تلبي حاجات ومتطلبات كل الفئات.
مشكلة لبنان تكمن في طبيعة نظام المحاصصة الذي طمح أن يجمع دستوريا كل الطوائف في بوتقة جغرافية واحدة ولكنه فشل في توحيد الناس في إطار ثقافي واحد. فالنظام المرن في آليات الاستيعاب السياسية فشل في تكوين هوية وطنية جامعة تشدّ مختلف الأطراف إلى فكرة مركزية يشترك الجميع في تحمل تبعاتها والدفاع عنها. وبسبب هذه الآليات أنتج النظام فيديرالية طوائفية تعتمد قنوات فرز المواطنين إلى مجموعة انتماءات وولاءات تسقط عن البلاد الهوية الوطنية. فالمواطن اللبناني غير موجود إلا خارج بلاد الأرز وحين يعود المغترب إلى بلاده يتحول فورا إلى عضو في طائفة ومذهب ومنطقة ولا يحق له الترشح على أساس المواطنة.
أدى هذا الفرز الآلي للقوى المحلية إلى تشكيل قوة طاردة للكثير من اللبنانيين ما شجع إلى خروج طاقات منتجة من دورة البلاد السياسية ورحيلها إلى الخارج (بلاد الاغتراب) خوفا من تصنيفها في دائرة معينة لا تتناسب مع طموحها أو رؤيتها. فهذه الطاقات العلمية والمتعلمة التي يخسرها لبنان سنويا تتجه إلى أميركا وأوروبا وإفريقيا وأستراليا بحثا عن ممرات آمنة، تشكل في النهاية قوة منتجة لا قيمة سياسية لها في بلادها. والخسارة البشرية التي يدفعها لبنان سنويا لا يمكن أن تعوّض لأن الكثير من القوى لا تعود وتفضل البقاء خارج وطن لا يعترف بها إلا على أساس العصبية الضيقة أو هوية الولادة.
أزمة الهوية في لبنان تشكل أحد أهم المشكلات في بلاد لا تعتمد المواطنة بل الطائفة. فالمثقف والمتعلم والأمي والجاهل والطائفي والمتعصب والمتسامح والمنغلق والمنفتح والملحد والمؤمن كلها مفردات لا قيمة لها وهي متساوية في النهاية بحسب موضع الولادة. فالهوية يقررها النظام بالنيابة عن المواطن. والمواطن أسير الانتماء الطائفي والمذهبي الذي تقرره الولادة الطبيعية للفرد مهما كانت علومه وتطلعاته وطموحاته وأفكاره ونضالاته. فهذه في مجموعها تساوي صفرا في نظام محاصصة اختار الطائفة هوية للمواطن. اللبناني مهما فعل وقال وكتب وأوضح وشرح فإنه في لحظة التوتر السياسي يصنف في دائرة هوية ولادته ولا يستطيع اختيار هوية أخرى غير تلك التي ألصقت به لحظة تسجيله في اللائحة (إخراج قيد). ومصطلح «إخراج قيد» يشكل منذ البداية محضر ضبط لهوية المواطن لا يستطيع تغييرها حتى لو نجح في شطب الطائفة من هويته المقررة سلفا. فالشطب من لائحة «إخراج القيد» لا قيمة دستورية أو وظائفية له لأنه يعرض «النظام العام» للاختلال.
اللاطائفي في لبنان غير معترف به في الدستور لأنه قرار شخصي قانوني يحق للمواطن أن يتخذه خيارا فرديا ولا يعطيه الحق في استخدامه بذريعة منع إرباك معادلة «النظام العام». وبسبب منظومة الولادة الطبيعية للهوية كان من الصعب تطوير النظام السياسي من الطائفية إلى المواطنية.
قريبا ستعلن حكومة لبنان عقب خمسة أشهر من الاستشارات وستكون الحقائب موزعة بحسب التراتب النسبي للطوائف والمذاهب... ليعود بعدها الاحتقان والتوتر بالتصاعد من جديد لتبدأ استشارات جديدة وإعادة التكليف والتأليف.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2621 - الأحد 08 نوفمبر 2009م الموافق 21 ذي القعدة 1430هـ
عبد علي عباس البصري(حكومه وطنيه)
شكراً جزيلا اخ نويهض بس الحكومه ابت ان تولد طائفيه فولدت وطنيه تشارك فيها جميع الطوائف ، فخاب اعداء لبنان ولتكون لبنان دوله ديموقراطيه . فلتكن لادول العربيه الاخرى مثل لبنان حتى لا نتهاوى في صراعات مثل العراق واليمن والحبل على الجرار