مرة أخرى تنشغل النخب الايرانية الحاكمة بما هو ليس أساسي وبما هو ليس من هموم الرأي العام الايراني وتغرق أو تستغرق في معاركها الداخلية الصغيرة فيما تجتاح الناس هموم داخلية وخارجية من نوع مختلف تماما. لم يعد مهما عند الايراني - وهو ما قد ينطبق على شعوب المنطقة عموما - منذ مدة ما اسم الرئيس ولا نوع الصلاحيات التي يملكها ولا بأية أيديولوجية او مذهب ينطق أو يحكم بقدر ما يهمه ان يرى النتائج الملموسة والعينية التي يشهدها على الأرض وفي الميادين المختلفة لاسيما المعيشية منها باتجاه التنمية. تنمية بلاده ونقلها من المستوى غير اللائق بها إلى المستوى الذي تستأهله بين الامم، والاهم من كل هذا وذاك الانتقال من جمهوريات أو ملكيات - لا فرق - «الهموم الامنية» السلطوية إلى جمهوريات أو ملكيات «الهموم التنموية».
ان تكون مهتما بالمواطن اليوم يعني ان تهتم بتوفير الطرق السليمة له وأن تهتم بفضاءات التعليم السليمة له، وأن تهتم بتوفير رزقه الاساسي بما يتناسب وقدراته الشرائية، وأن تهتم برعايته الصحية، وان تهتم بأوقات فراغه كيف تملأها؟! وأن تهتم فوق كل ذلك بكيفية توزيع الثروة الوطنية، التي هي ملك عام للشعب، بشكل عادل ومتوازن بين فئاته وطبقاته حتى لا تطغى فئة على أخرى أو مجموعة متميزة على أكثرية الشعب!.
فعندما يفاجأ الاصلاحيون والمحافظون معا بضعف الاقبال على صناديق الاقتراع في آخر انتخابات شهدتها البلاد - الانتخابات البلدية - وعندما يفاجأ الاصلاحيون والمحافظون معا بأن أكثرية الناس لم تعد مبالية بمصير الرئيس المحبوب والرئيس الشعبي محمد خاتمي وبتعزيز صلاحياته التي يطالب بها الاصلاحيون أو التي يمنعها عنه المحافظون فيضطر وزير الداخلية إلى الاستعانة بالشعب والرأي العام للتدخل و«قول كلمته» باعتباره «الاكثرية الصامتة»! ولا من مجيب! عند ذلك يجب ان تراجع النخب الحاكمة الموالية للاصلاح والمعارضة او المتحفظة عليه نفسها لتعرف انها باتت بعيدة عن طموح الناس واهتماماتها.
فهذه الاكثرية التي يسمونها صامتة هي ليست صامتة في الواقع. انها تتحدث وتتحدث يوميا لكنها تتحدث بلغة يبدو ان النخب الحاكمة - اصلاحية كانت أم محافظة - لا تفقهها ولا تستوعبها، فقد نزلت هذه الناس مرة ثانية إلى الملاعب و«الحسينيات» والمساجد حتى ان رئيس بلدية طهران الجديد الموسوم «محافظا» اضطر الى الدعوة إلى إحياء دور المسجد في العملية الانتقالية التي يخطط لها في مسار اعادة ترميم «الحياة» لمدينة طهران بعد «ان جالت فيها احزاب ومجموعات لا اصل لها ولا فصل»! بحسب ما ورد في بعض تصريحاته بالمضمون العام.
هموم المواطن الايراني الخارجية كانت هي الاخرى محل - سوء فهم - أو تفاهم بينه وبين النخب الحاكمة لاسيما النخب المنظرة البعيدة عن الميدان، ففي الوقت الذي كانت فيه تلك النخب ولاتزال إلى حد ما منشغلة ومشغولة ومهمومة بين الوقوف إلى جانب «المد الاميركي» الذي تصعب مقاومته وبين التمترس خلف مقولات جامدة من الفهم «القومي» أو «الايديولوجي» للممانعة، كانت الناس تبحث عن «هويتها» الضائعة في خضم هذه الاستقطابات الكاذبة أو المبتورة والمشوهة في الحد الادنى.
فالمواطن الايراني كان يقول ويطالب بل ويمارس يوميا سلوكا متفاوتا تجاه القطبين السالفي الذكر، فلم يكن مع الاجتياح الاجنبي يوما ولم يهلل له ولا للحظة واحدة، لكنه أيضا لم يكن ليقبل أيضا ولا للحظة واحدة أيضا ان تتوقف الحركة التغييرية المتوازنة عنده أو تتكلس بحجة احتمالات تفاقم الخطر الخارجي!
انه كان ولايزال يطالب وبإلحاح بإشراكه بجد واحترام وإخلاص في مهمة التغيير الوطني الداخلية العملية وعدم الاكتفاء بالتنظير عليه من جانب احزاب وفصائل منقطعة عن الناس ولا تفهم إلا لغة «الاروقة وصالونات التسويات السياسية والصفقات الحزبية».
المحللون السياسيون المستقلون في تتبعهم لمجريات تطور الحوادث الداخلية في ايران يقولون إن الاتجاه العام للتحولات يسير نحو مزيد من تراجع الاحزاب الاصلاحية الراديكالية وإن علا ضجيجها أو سيعلو مقابل بروز تيارات «اصلاحية» من بطن الاتجاهات المحافظة ستحاول الدخول إلى «سفينة الاصلاح» في محاولة لإعادة صوغ برنامج الاصلاح الوطني بما يتناسب والمرحلة الجديدة التي ستشهد تراجعا عاما للاحزاب التقليدية الايرانية، الامر الذي يحتمل بروز قيادات ورموز وطنية جديدة أو قديمة متجددة تعلمت أو هي قيد تعلم لغة الناس والرأي العام المحبط من تجربة «الاصلاح النظري» وأدبياته الجميلة لكنها الفقيرة النتائج.
ان تجربة الاجتياح الاميركي للعراق، وما حملته ولاتزال من تداعيات وتحديات خطيرة ومن نوع جديد تلح على الجميع لاسيما زعماء الاحزاب والقوى المختلفة في بلادنا ان تعمل بجد على الاهتمام بهموم المواطن وليس هموم الزعيم
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 262 - الأحد 25 مايو 2003م الموافق 23 ربيع الاول 1424هـ