عاد الأمير المنصور إلى إشبيلية في العام 593 هجرية (1197م) وفي تلك السنة وقعت محنة ابن رشد. وفي هذا الأمر وجهات نظر كثيرة عن أسبابها ودوافعها تتوزع بين أمور شخصية ومسائل سياسية وقضايا فكرية وهي على مجموعها ليست كافية لفهم ما حصل، وأيضا هناك مبالغات وإضافات لتبرير ما حصل وتفسيره.
أساس تضخيم «المحنة» يعود إلى بعض المستشرقين وجماعة «الرشديين» في أوروبا الذين قاموا بتحويل الحادث إلى مشهد أسطوري يتجانس مع نزعة محاكم التفتيش التي سادت في بعض المناطق الأوروبية بينما هي في حقيقتها مأساة جاءت في سياق عرضي لا قيمة تاريخية لها. فالمحنة مثلا لا نجد في تاريخ ابن الأثير أي ذكر لها كذلك في تاريخ ابن كثير. وباستثناء الإشارة السريعة التي جاء عليها ابن خلدون لا تذكر «المحنة» كحادث يستحق التسجيل.
استمرت المأساة حوالي السنة (تحديدا تسعة أشهر) بعدها رضي المنصور على ابن رشد وإعاده إلى مكانته الأولى بعد وساطة قام بها بعض أقرباء وأنصار قاضي قرطبة. ولو كانت الخلافات جوهرية تتعلق بشئون اعتقادية وفلسفية لكان من الصعب على الأمير أن يعيد النظر بموقفه.
هناك تحليلات تقول إن المنصور اضطر إلى مسايرة «الاتجاهات الأصولية» في الدولة والشارع لكسب تأييد الشعب في معركته الفاصلة مع تحالف الإفرنج في الأندلس. وهذا غير دقيق لأن محنة ابن رشد حصلت بعد معركة الارك وليس قبلها. لو حصلت المأساة قبل المعركة يمكن قبول التفسير المذكور، لكنها حصلت بعدها في وقت كان الأمير في أعلى درجات قوته وليس بحاجة إلى توظيف ابن رشد في معركته الداخلية لكسب الجماهير ورضى الناس لمقاتلة الفرنجة. فالمنصور كان يسيطر على الموقف بدليل أنه أفرج عنه وسائر الجماعة التي اعتقلت معه.
ترد إشارة إلى المحنة في تاريخ ابن خلدون وتقتصر على فقرة صغيرة، وهي على قلة سطورها مليئة بالدلالات والمعاني من ناحية تصويب توقيت المحنة فهو يذكر «وقفل إلى إشبيلية سنة ثلاثة وتسعين (عودة المنصور من شمال إفريقيا) فرفع إليه في القاضي أبي الوليد بن رشد مقالات نسب فيها إلى المرض في دينه وعقله. وربما ألف بعضها في خطه فحبس. ثم أطلق، وأشخص إلى الحضرة وبها كانت وفاته» (المجلد السادس، صفحة 290).
يؤكد توقيت ابن خلدون على أن مأساة ابن رشد وقعت بعد معركة الارك لكنه يشير إلى وجود مشكلة مرضية «في دينه وعقله» ويشك في صحة نسبتها إليه، بل هي دسيسة من أصحاب السعايات.
إلا أن المسألة ليست بسيطة إلى هذا الحد ولابد من إعادة تركيب عناصر المحنة لنضعها ضمن ظروفها التاريخية وشروطها السياسية. فما هي تلك الظروف والشروط التي ذكرها المتابعون لحياة ابن رشد وأعماله؟
تتشعب الأسباب التي يأتي عليها المهتمون بتلك المحنة إلى عناصر شخصية وسياسية وعقائدية وظرفية. ونبدأ بالشخصية وهي تتركز على نقطتين: وصفه المنصور بملك «البربر» الأمر الذي اعتبره محاولة تعييره بأصله (قبائل المصامدة في جبال المغرب) وعندما استدعاه لسؤاله أنكر ابن رشد واعتذر عن الخطأ وقال إنه ناتج عن التصحيف (النسخ) فهو وصفه ملك «البرين» فسمع الخليفة منه وسامحه. والنقطة الثانية هي عدم احترامه لألقاب المنصور من نوع «خليفة المسلمين» أو «أمير المؤمنين» وكان يكتفي بمخاطبته «يا أخي» من دون ألقاب، الأمر الذي كان يحرج المنصور أمام شيوخه وأنصاره.
تتركز التحليلات السياسية على عناصر كثيرة مثل تطور الصراع مع الفرنجة وانشغال الأمير بحربهم وصعوبة استمرار القتال ضد ملك قشتالة من دون حشد الشارع تحت راية الجهاد، ومسألة حصول خلافات شخصية مع بعض الشيوخ والفقهاء بسبب تقريب المنصور ابن رشد في مجلسه وإعجابه بشخصه وعلومه، الأمر الذي زاد من الغيرة والحسد، إضافة إلى نشوء نوع من المودة الخاصة بين ابن رشد وشقيق المنصور (والي قرطبة) تعززت بصلات دائمة واتصالات تناولت طبيعة الحكم وولاية العهد في المستقبل، ويقال إن أبي يحيى كان على نزاع مع شقيقه الأمير على رغم مشاركته في عمليات الجهاد والحروب ضد الفرنجة.
وتتجه التحليلات العقائدية إلى حصر المسألة في إطار ايديولوجي ونمو تيار فقهي مضاد للفلسفة في الأندلس عمد إلى إثارة مشاعر الخليفة الدينية في مسائل مختلفة منها إنكار ابن رشد وجود «قوم عاد» الذين ضربتهم الريح الصفراء وأهلكتهم، وقوله في أحد مقالاته إن كوكب الزهرة «أحد الآلهة» الأمر الذي اعتبر عودة إلى الصنمية.
عموما، تعتبر تلك العناصر والعوامل مجتمعة مسئولة عن محنة القاضي ابن رشد، إذ نقم عليه المنصور واستجوبه في مجلسه فقهاء إشبيلية وقضاتها وقرر على أثره نفيه إلى قرية اليسانة في الأندلس. وأرفق النفي إصدار منشور يحرم الفلسفة ثم كتب إلى البلاد يطلب إلى الناس ترك هذه الترهات باستثناء الطب والحساب والمواقيت والهندسة. وطالت المحنة الكثير من الشيوخ والفقهاء والقضاة أبرزهم العالم أبوجعفر الذهبي.
قفل الخليفة عائدا إلى مراكش ثم عفا عن ابن رشد في سنة 594 هجرية (1198م) واستقدمه إليه وأعاده إلى سالف عزه. وعاش فيلسوف الأندلس في مراكش مكسور الخاطر (75 سنة)، وتوفي في العام 595 هجرية (عام وفاة المنصور أيضا) تاركا مكتبة كبيرة معظمها مصنفات لأفكار غيره وبعضها من تأليفه، وهي الأهم في نتاجاته.
يبقى السؤال ما هي الأسباب الفعلية التي أشعلت مأساة ابن رشد ولماذا غضب المنصور عليه بسرعة ورضي عنه بسرعة وأعاده مكرما إلى بلاطه ومكانته الأولى؟
لاشك في أن في الأمر سلسلة ألغاز، إلا أنه يمكن فهمها وربطها بشخصية المنصور المتقلبة واختلاف مزاجه العقائدي والمذهبي. فالمنصور مال في أيامه الأخيرة إلى الشافعية وصادف آنذاك صدور كتاب ابن رشد في الرد على الإمام الغزالي بعنوان «تهافت التهاتف» ويطعن فيه بشخصية الغزالي وينعته بالرجل الشرير الجاهل ويتهمه بالانتقائية واجتزاء النصوص وغيرها من الصفات غير اللائقة. وأردف شتمه للغزالي بهجوم على الأشاعرة عموما وطعنه بهم، كذلك هاجم الكثير من الفقهاء، وحاول إظهار انحراف الفلاسفة كالفارابي وابن سينا عن مذهب أرسطو. وانتقد الفارابي لمحاولته الجمع بين رأي الحكيمين (أرسطو وأفلاطون) وأظهر تعارض أرسطو مع فكرة الفيض. ثم اتهم ابن سينا والفارابي بإدخال أفكارهما على أرسطو وخلط مذهبه وتغييره ومزجه بعناصر غير أصيلة. ولم يكتف بالدفاع عن المشائية والرد على المتكلمين والغزالي في مسألتي الابطال والتقريب، بل سخر من الفارابي وانتقد ابن سينا والمعتزلة ودانهم على نقل معارك الخاصة إلى العامة، الأمر الذي زاد من كثرة الكفر وقلة الإيمان.
بسبب توسيع ابن رشد دائرة خصومه في آخر كتبه (كان تجاوز الـ70 سنة من عمره) وسع دائرة الأعداء فأثار ضده أنصار المعتزلة إلى تيار الفلسفة (الفارابي وابن سينا) علاوة عن المتكلمة والأشاعرة وتحديدا الإمام الغزالي. فالهجوم العام طال الشافعية (تيار النخبة في المغرب والأندلس) والمالكية إلى الظاهرية وكل من له مصلحة في إثارة نقمة المنصور عليه. لذلك شبه ابن خلدون محنته بمرض أصابه في دينه وعقله.
إلى كتاب «تهافت التهافت» وما أثاره من سجالات، هناك اتصالاته بشقيق المنصور أمير قرطبة (أبويحيى)، إذ نشأت الصلة خلال تولي ابن رشد وظيفة قاضي قضاة الإمارة. واعتبر أمير دولة الموحدين أن القاضي تجاوز صلاحياته بتدخله في شئون العائلة الداخلية.
زاد الطين بلة قيام حركة تمرد في شمال إفريقيا بتحريض من داعية استغل فترة وجود المنصور في الأندلس فأخذ يستقطب الناس بذرائع شذت عن قواعد الدين. وهو أمر يفسر غضب أمير الموحدين على تيارات البدع وإصداره المنشور وتحريمه التعاطي بشئون الفلسفة، فالمنشور أصلا هو رد على انتفاضة الداعية علي بن إسحق التوزي وليس ردا على أفكار ابن رشد الفلسفية. فالقاضي اهتمّ بشئون الفلسفة بناء على طلب الأمير ورغبته في تلخيص وشرح أرسطو بعد أن تعددت الترجمات وتناقضت. وكانت كتب الفيلسوف منتشرة ومتداولة بتشجيع من الدولة وإشراف منها. ولم تحصل الغضبة إلا بعد أن رد ابن رشد على كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» وانتقاده لمناهج الأئمة والفقهاء والعلماء واستخدامه الألفاظ المسيئة بحقهم في وقت تناول طرق الفلاسفة وأفكار المعتزلة بالنقد واللوم.
طالت المأساة عشرات الشيوخ والقضاة وكان فيلسوف الأندلس الضحية الأبرز، إلا أنها لم تستمر طويلا لأن غضبة المنصور كانت أصلا سياسية وتستهدف أعداء الدولة في المغرب الذين تستروا بالبدع واستغلوا الأهواء لأغراض أخرى. إلا أن هناك تحليلات تربط أزمة ابن رشد بشرحه لكتاب أفلاطون (الجمهورية) وفيه إشارات سياسية سلبية ضد العهد، الأمر الذي أثار نقمة الأمير عليه.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2611 - الخميس 29 أكتوبر 2009م الموافق 11 ذي القعدة 1430هـ