العدد 261 - السبت 24 مايو 2003م الموافق 22 ربيع الاول 1424هـ

خريطة الطريق كمشروع انهدام ذاتي

عماد فوزي شعيبي comments [at] alwasatnews.com

-

«خريطة الطريق» التي يراها الأميركيون الفرصة التاريخية لإنهاء صراع مسلح بين إرهابيين ودولة ! هي ضرب من السذاجة السياسية التي ستتحول - مع جملة من السلوكيات السياسية للولايات المتحدة الأميركية تحت ظلال الإيديولوجيين - إلى كارثة سياسية، تماثل إلى حد كبير الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبه الحلفاء في صلح فيرساي بخصوص ألمانيا؛ عندما لم يراعوا حقوق الشعب الألماني القومية وعندما قسموه بصورة تعسفية، متجاوزين درسا مهما لسياسيي القرن الثامن عشر لكل من مترنيخ وكاستلري اللذين أقاما «صلح المئة» عام 1813-1914 بعد هزيمة نابليون، والذي يتلخص في عدم إهانة الأمة الفرنسية وتقسيمها، وهذا الدرس يتلخص في أن منطق الحرب هو القوة لكن منطق السلم هو التوازن، وأن نجاح أي حرب هو النصر لكن نجاح السلام هو الاستقرار، وهذه المعادلة التي اخترقها الحلفاء في صلح فيرساي وأدت إلى الحرب العالمية الثانية وبروز الظواهر المتشددة كالنازية والفاشية هي نفسها التي يخترقها الأميركيون بشدة في لعبة فرض السلم عبر خريطة للطريق تغلب الأمني على السياسي، وتترك المجال لعدم التوازن مفتوحا على مصراعيه وتريد أن تفعل قاعدة أن السلم تعبير عن ميزان القوى بين رابحين كليا وخاسرين كليا وهي معادلة غير سياسية ولا تؤدي لا إلى توازن ولا إلى استقرار؛ لأن الشعوب لا تنام على قواعد ميزان القوى العسكري، بل تبيح لنفسها تعديل قواعد ميزان القوى العسكري بميزان القوى البشري واللاعقلاني، إذ انه إذا لم تستطع الخطوات السلمية أن تؤدي إلى التوازن فإن خرق التوازن يساوي خرق ميزان القوى بصورته العسكرية الاستاتيكية، وفي أحسن الأحوال سيتحول السلم هنا إلى هدنة تتفجر تحت إيقاع ميزان للقوى جديد هو ميزان التفجير على قاعدة لعبة عض الأصابع. ما يعني أن السلم هنا هو صلح مرتد.

كل صلح أو سلم يقوم على إغراء الانتقام وقهر الشعوب هو صلح مرتد؛ بمعنى أنه مؤهل دائما كي يكون قنبلة انفجارية بصورة غير معهودة أو مقبولة.

في صلح باريس؛ وهو درس الديبلوماسية التاريخية الذكية لمترنيخ وكاستيلري لم يتم اتخاذ أي تدبير مسرف ضد فرنسا التي احتفظت بحدودها القديمة وسمح لها زيادة عن ذلك، بالتوسع تجاه السافوا والبالاتينا مضيفة بذلك نحو 600 ألف نسمة إلى عدد سكانها، وأطلقت يدها (أيضا) في تحديد عدد قواتها المسلحة وأعادت إليها بريطانيا غالبية المحطات الاستعمارية التي استولت عليها. ولم يفرض عليها أية تعويضات مالية وبذلك كان التوازن في الصلح الذي نزع الظاهرة النابليونية الاستعمارية التوسعية التي أرادت ضم إيطاليا وهولندا وبلجيكا وألمانيا وسويسرا ومالطا. بمعنى آخر فإن السلم الحقيقي هو السلم الذي يحقق استقرارا مرهونا بانعدام التفسخ النهائي، وعلى أن فن الحكم لايقوم على الانتقام بل على الاستيعاب والاندماج، وغابت عن معاهدة باريس، كما كان يقول كيسنجر في كتابه :«عالم أعيد بناؤه»، خرافة الأمن المطلق التي تحاول كبح طرف واحد فقط ووضع ملامح حدودية على طريقة الغيتو ما يؤسس لاختلال التوازن بين كل الدول.وإذا ما أدرجنا المعادلات السابقة في معادلة العراق أو خريطة الطريق ملخصة بـ :

التوازن والاستقرار وعدم إهانة الحس القومي أو انتزاع الحقوق والتخلي عن خرافة الأمن المطلق وعدم الاقتصاص أو الانتقام وعدم كبح طرف وحيد فهل لنا بعقل بارد أن نتوقع من خريطة الطريق أن تجد طريقا إلى التحقق.

إنها محكومة بالفشل الذريع وهي كوثيقة تينت الأمنية وككل الاتفاقات من أوسلو إلى اليوم لن تؤدي إلى نتيجة لأنها محكومة بالانحياز إلى طرف لاعتبارات انتخابية وداخلية في الولايات المتحدة الأميركية نفسها.

الغريب أن الدرس الذي استعاده كيسنجر في رسالته للدكتوراه هو نفسه الذي يتم اختراقه بصورة لا عقلانية من تيار إيديولوجي لم يتعلم السياسة قط، ويقوم على قاعدة ان استقرار منظومة إقليمية أو دولية ما مرهون بشعور الفرقاء بوجود مصلحة لهم في الدفاع عنه بما فيه الأمن المتوازن، وإذا ما كان لطرف دولي أن يقوم بتلك التسوية بين طرفين فإن عليه أن يدرك أنها يجب أن تحقق للطرفين توافقا بين رؤاهم الذاتية وبين الفكرة التي تكونها الدول الأخرى عن كل طرف، لا أن يفرض الوسيط (وهو هنا افتراضيا الولايات المتحدة)، فكرته عن طرف ما وطبيعة انحيازه لهذا الطرف دون ذاك، على الطرف الأضعف في المعادلة، وهذه أيضا إحدى أهم أخطاء السياسة الأميركية. وإذا كان الرئيس جورج بوش ومن معه بتنوع تياراتهم وتنافسها الحقيقي قد وصلوا إلى الحد الذي يريدون فيه فرض قواعدهم، فإن عليهم أن يتعلموا دروس السياسة التي تعلمناها وعانينا منها كثيرا، ودفعنا فرادى وجماعات ودولا أثمانا باهظة، كي تصبح إرثا وقواعد كل حيدان عنها سيعني كارثة، كما سيعني أنه على من لم يتعلم فعل السياسة وقواعدها، أن يقبل بأن يصبح خارج التاريخ والحقيقة أن هذا التعبير سمعناه من كولن باول أخيرا تجاه سورية، وهو في الحقيقة ينطبق عليه وعلى سياسة إدارته التي لا تريد أن تفهم المعادلات السابقة والتي جاءت من مدارسهم السياسية وعلى رأسها كيسنجر. تعلمنا من كيسنجر على رغم أننا لا نحبه وتضررنا كثيرا منه، ولا نجد غضاضة أن نتعلم المفيد انتقائيا من خصومنا، لكن أبناء جلدته لا يريدون التعلم وباختصار خريطة الطريق محكومة بالفشل والتراجيديا، لأنها غير سياسية ولا تلتزم بألف باء السياسة.

فإنها تبدأ بالأمن الذي هو نهاية أية مفاوضات تفضي إلى سلم ؛ فإن هذا يعني أنك تريد أن تقلب السياسة على رأسها، وتفسح في المجال أمام من تنحاز إليه كي يسوف ويقول إنه لن يوافق على خريطتك، منتظرا دورك في لعبة الانتخابات الرئاسية التي ستحتاج فيها إلى دعمه، وهذا يعني أنك طرف ولست وسيطا بين الأطراف.

مرة أخرى من دون معادلة لا تقوم على: «التوازن والاستقرار وعدم إهانة الحس القومي أو انتزاع الحقوق والتخلي عن خرافة الأمن المطلق وعدم الاقتصاص أو الانتقام وعدم كبح طرف وحيد»، لن تكون هنالك أكثر من هدنة قصيرة أو انفجار مدمر.

حل البانتوستان عند شارون

إن التفاصيل المؤشرة على بدء موت خطة الطريق ببطء، هو حلم شارون بالبانتوستانات، والتفاصيل تنعقد في أن رئيس الحكومة الإيطالي السابق، ماسيمو دالما، قد قام خلال زيارته لإسرائيل قبل نحو أسبوعين بالتسويق لما كان قد سمعه من شارون مطولا قبل نحو 3 - 4 سنوات خلال زيارة الأخير لروما. إذ أوضح شارون لماذا يعتقد ان نموذج البانتوستان هو الحل الأكثر ملاءمة للصراع في نظره.

نظرية شارون عن البانتوستانات مأخوذة من تجربة جنوب إفريقيا، إذ كانت في جنوب افريقيا عشر دويلات مبتورة ومعزولة. وخطة شارون كما تحدث عنها زعيم موليدت، بيني ألون، في كتابه «توجهات للسلام» تتحدث هي الأخرى عن عشر دويلات فلسطينية في الضفة وواحدة في غزة.

لكن هذه الخطة لا تحظى حتى من الإسرائيليين أنفسهم بالتقدير بالنظر إلى أنها تشكل نموذجا من الأبارتهيد المعلن من دون أية أشكال تجميلية:

فألون ليئال، سفير «إسرائيل» في جنوب افريقيا سابقا، يقر بمخاطر هذا التصور إذ إن الجنوب إفريقيين استطاعوا إنشاء أربعة فقط من خطة العشرة بانتوستانات التي رسمت من نظام البيض في الستينات،معترفا بأن طريقة البانتوستان هي الحيلة الأكثر بشاعة لتكريس نظام التفرقة العنصرية؛ إذ إن مناطق خاصة وهي في العادة الأماكن الأقل خصبا من جنوب إفريقيا خصصت للسود وللملونين وحدهم، و سكان هذه الدويلات التابعة تمتعوا بحكم ذاتي محدود وكل وجودهم كان مرتبطا بإحسان وحسن نية الحاكم الأبيض. فمليونا أسود و600 ألف ملون و40 ألف ابيض رحلوا جماعيا إلى مناطق مختلفة في الدولة وفقا لجنسهم. أما كل من واصل السكن خارج مناطقه فقد حصل على مكانة عامل أجنبي وجرد من حقوق المواطنة.

وقد رفضت زعامة السود التعاون مع خطة البانتوستانات وواصلت كفاحها من أجل فرض حكم الغالبية على البلاد كلها وأدت موجة القلاقل إلى تدخل جيش جنوب افريقيا، وهكذا فشلت الخطة وعادت تلك الجيوب الذاتية في العام 1994 إلى جزء من جنوب إفريقيا الموحدة تحت حكم الغالبية السوداء. وهذا هو المصير المشابه فعلا لخطة شارون نحو تأسيس تقسيمي لدولة فلسطينية متشظية، والدليل مرة أخرى هو منبع تلك الفكرة :«جنوب إفريقيا»؛ إذ يتشارك النظامان السياسيان في المعالم الأساسية نفسها «للجيب الاستيطاني» والمال نفسه التاريخي له كنظام أبارتهيد يتداعى بقوة العطالة، أو «قوى القصور الذاتي». ولم تعترف أية دولة بالدويلات الصغيرة تلك، ولم تغير دول العالم سياسة الحصار التي فرضت على النظام العنصري. وقدامى الزعامة السوداء، باعتراف عكيفا الدار وفألون ليئال، اللذين عايشوا تلك المرحلة في جنوب افريقيا يذكرون أن رجال أعمال إسرائيليين وتايوانيين هم الوحيدون الذين طوروا علاقاتهم مع الدويلات الصغيرة تلك، بما يتيح للتحليل عن تماهي النظامين بعضهما ببعض الفرصة للصدقية.

ففضلا عن أن خريطة الطريق تقول بقيام دولة فلسطينية قبل بحث قضية اللاجئين. بمعنى أنهم ينتعلون الأحذية أولا وبعد ذلك يرتدون الجوارب، وهي بالتالي خطة ذات فشل داخلي، إلا أن شارون يريد كسب الوقت للاستمرار في تمديد المستوطنات بحجة أن هذا تمديد وليس خلق مستوطنات جديدة، مستخدما تعبيرا يتصل بالتكاثر بين المستوطنين تمهيدا للتكاثر الاستيطاني، وكل هذا من أجل أن يخلق أمرا واقعا يتمثل في بانتوستانات مقطعة بأحزمة من المستوطنات تصل بينها كوريدورات (ممرات) تحت إشراف إسرائيلي. واللغم الأكبر هنا هو إلغاء مسألة اللاجئين.

فوفقا للجدول الزمني لخريطة الطريق، تقام دولة فلسطينية قبل البحث في قضية اللاجئين، وهذا ما يتوافق بعض الإسرائيليين على اعتباره سذاجة منهجية فقط ؛ تقوم على التصديق بأنه وبعد إقامة فلسطين السيادية، تقوم الأخيرة بالتنازل عن حق عودة اللاجئين إلى عكا وحيفا، أو أنها قادرة فعلا على صنع ذلك.

وإمعانا في ترف النقاش في هذا الوقت الضائع من حياة الشعوب، يتحدث الإسرائيليون عن بعث اقتراح عرض في «إسرائيل»، قدمه ديفيد بن غوريون في الثامن من مايو/أيار سنة 1953، على أساس قيام سلام على قاعدة تعهد إسرائيلي بعدم توسيع حدود «إسرائيل» خلال القرن المقبل، ولا حتى في مدينة القدس القديمة، وتتبلور في سياق هذا العبث فكرة معاصرة! تقوم على (الإبقاء على قضية اللاجئين من جهة، ومطلب بقاء «إسرائيل» وفلسطين كاملة من ناحية أخرى حتى القرن الثاني والعشرين). وهذا الاقتراح سيعرض على أبو مازن وعلى شارون أيضا، كبديل للخلاص من وضعية البانتوسانات، لكن أحدا لا يصدق هذه الخزعبلات في ظل الصراخ من مخاطر دولة ثنائية القوميات! سيشكل فيها الإسرائيليون الأكثرية الساحقة ما سيلغي دولة «إسرائيل» كدولة يهودية.

وعلينا أن ندرك أن الحكومة الإسرائيلية تعول على أن يفشل أبو مازن في اجتثاث المقاومة، وهكذا بطبيعة الحال لا يصلون أصلا إلى بحث حق العودة، ولا إلى قيام دولة خارج حدود المقتطعات الشارونية المتناثرة كالشظايا بين المستوطنات، ما يعني أن لا مكان لخريطة الطريق في معادلة المستقبل

العدد 261 - السبت 24 مايو 2003م الموافق 22 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً