أمضى ابن رشد في وظيفته (قاضي قرطبة) أكثر من 27 سنة واصل خلالها تصنيف كتابات أرسطو وغيره من فلاسفة اليونان، ويقال إنه جمع ورتب نحو 70 مصنفا اشتملت على الفلسفة والفلك والطبيعة والطب وعلوم النفس والأخلاق والفقه والأصول والكلام واللغة والأدب. واشتغل على مصادر عربية وترجمات عن اليونانية أبرزها مصنفات أرسطو، وابن سينا، والغزالي، ونيقولاوس، وابن الصائغ (ابن باجه)، والفارابي، وجالينوس، والمجسطي، والاسكندر الأفروديسي، وأفلاطون، وأفلوطين.
اشتهر ابن رشد حتى العام 587 هجرية (1191م) كشارح لأرسطو وناقلا للفلسفة اليونانية وكانت غالبية كتبه تصنيفات لأفكار غيره. فمؤلفاته قليلة باستثناء كتابه عن الطب وعمله الفقهي المهم عن القضاء الإسلامي ومذاهبه وبعض المقالات والدراسات الفلسفية التي لم تضف أي شيء نوعي على أعمال الفلاسفة المسلمين السابقين أو الذين عاصروه مثل ابن طفيل. فابن رشد في فلسفته تقليدي ونظري الاتجاه وليس عمليا أو مجددا. فهو يميل إلى الأوائل ولا يحبذ كثيرا اتجاهات التأويل والتفسير التي لجأ إليها المتكلمة في ردهم على المعتزلة أو في نقاشاتهم وسجالاتهم مع الرازي (الطبيب الفيلسوف) أو الفارابي وابن سينا.
مال ابن رشد على خلاف أستاذه ابن طفيل، إلى التوفيق بين الشريعة والحكمة وأكد على عدم تعارض الفلسفة مع القرآن، فهو كان يؤمن بوحدة الحقيقة وأنها يمكن أن تأتي من طرق مختلفة وهي في جوهرها غير متناقضة ولا تختلف إلا في الألفاظ والمفردات.
لم يحدث ابن رشد ثورة انقلابية في التفكير أو في منهج البحث كتلك التي أحدثها الإمام الأشعري في انقلابه على فرق المعتزلة أو تلك التي أحدثها الإمام الغزالي في سجاله مع الفلاسفة المسلمين ومحاججته للعقل اليوناني بأسانيد عقلية وقرآنية. لذلك يرجح أن يكون خلافه مع الأمير المنصور بدأ لأمور تتعلق بشئون سياسية أكثر مما تتعلق بأمور فلسفية. فابن رشد في النهاية هو ابن دولة الموحدين وصنيعتهم في وقت كانت الدولة في عز قوتها وتماسكها ولا تهاب المعارضات الداخلية ولا تخاف من أراء أو نظريات.
هذا لا يعني أنه لم تحصل خلافات فكرية مع الأمير وشيوخ الدولة. فالمنصور كان كثير التقلب في مزاجه المذهبي فهو انتقل من المالكية (مذهب ابن رشد) إلى الظاهرية (مذهب ابن حزم) إلى الشافعية (مذهب الغزالي) وكان في كل خطوة انتقالية يستبدل القضاة ويغير الشيوخ باستثناء ابن رشد إذ استبقاه يمارس وظيفته ومهمته في مدينة قرطبة في وقت كان شقيق المنصور (أبويحيى) أميرها.
يرجح أن المنصور شك بتصرفات ابن رشد بسبب اتصالاته بشقيقه أمير قرطبة وانحيازه إليه في لحظة كان يعيد ترتيب شئون دولته فقدم ابنه الناصر على شقيقه وكتب له ولاية العهد من بعده.
كان ذلك في587 هجرية وهو عام ازدادت فيه الضغوط الإفرنجية على الجبهة الأمامية وحصلت اضطرابات داخلية عطلت إمكانات حشد القوات واستنفار الناس للجهاد ضد الحملات القادمة من أوروبا.
بعد كتابة العهد لابنه الناصر عاد المنصور إلى مراكش لتنظيم أموره فثبت صاحب إفريقيا (أبوزيد) في موقعه إلى جانب «مشيخة العرب من هلال وسليم» في سنة 588 هجرية (1192م) كما يذكر ابن خلدون. إلا أنه واجه مشكلة مع ابن غانية حين أخذ يثير الشغب ويعيث فسادا في شمال إفريقيا فعزم على محاربته في سنة 589 هجرية (1193م) واندفع بقواته فوصل إلى مكناسة. وجاءت إلى هناك الأخبار من الأندلس وأفادت أن الفرنجة حشدوا قواتهم للزحف على حواضر المسلمين. كان ذلك في سنة 590 هجرية (1194م) فأوقف هجومه على ابن غانية وتوجه إلى الأندلس فوصل قرطبة سنة591 هجرية (1195م) وانضم إليه شقيقه أمير المدينة. وزحف إليه الفرنجة بقيادة أمراء ثلاثة على رأسهم ملك قشتالة الفونس التاسع. وقام المنصور بتجميع قواته في الارك وحصلت معركة فاصلة ضد التحالف الإفرنجي (ابن اذفونش، وابن الرنك، ولببوج) وانتصر المسلمون وكانت الهزيمة المشهورة التي قتل فيها أكثر من 30 ألفا وأسر 5 آلاف من قوات الفرنجة حسب رواية ابن خلدون الذي كتب عن المعركة بعد أكثر من قرنين.
تشبه معركة الارك (591 هجرية) في الأندلس موقعة حطين (583 هجرية) بقيادة صلاح الدين في المشرق فهي كانت قاسية ولم تكن حاسمة ولم توقف تدفق موجات الغزو من أوروبا، لكنها أحدثت إرباكا في خطط الفرنجة وأجلت سقوط قرطبة أكثر من 40 سنة.
عندما وصلت أخبار الانتصار في موقعة الارك إلى المشرق ارتفعت معنويات المسلمين التي هبطت بوفاة صلاح الدين في 589 هجرية ودخول أولاده مع عمهم العادل في نزاعات على السلطة أعطت فرصة للفرنجة في إعادة تنظيم قواتهم وتحسين شروط حربهم المضادة.
يصف ابن الأثير الذي عاصر الحوادث وراقبها في المشرق معارك المسلمين في الأندلس بحماس شديد ويقول إن الجيشين التقيا في مكان يعرف بـ «مرج الحديد» وكانت الدائرة أولا على المسلمين ثم انقلبت على الفرنج وانهزموا. ويبالغ ابن الأثير في تقدير خسائر الفرنجة فيذكر أن عدد قتلاهم بلغ 146 آلفا وأسراهم 13 ألفا. وقتل من المسلمين 20 ألفا. وغنم المسلمون من الخيام 143 ألف خيمة ومن الخيل 46 ألفا ومن البغال 100 ألف ومن الحمير 100 ألف، ومن السلاح 70 ألفا. ويكرر ابن كثير (توفي 774 هجرية) معلومات ابن الأثير عن نتائج المعركة ويضيف أن السلطان قسم هذه الغنائم على الوجه الشرعي «ثم طلبت الفرنج من السلطان الأمان، فهادنهم على وضع الحرب خمس سنين» (البداية والنهاية، 13/ ص 14 - 15). وأهم ما يقوله عن الموضوع هو تحليله لأسباب قبول المنصور طلب الأمان والمصالحة لمدة 5 سنوات وهو تحليل ينسجم إلى حد كبير مع ما آل إليه مصير ابن رشد.
ويذكر ابن كثير في تاريخه ظهور رجل يقال له علي بن اسحق التوزي في بلاد إفريقيا مستغلا انشغال الأمير في قتال الفرنجة في الأندلس مدة ثلاث سنين فأحدث أمورا فظيعة في غيبته و»عاث في الأرض فسادا، وقتل خلقا كثيرا، وتملك بلادا» (13/ صفحة 15).
جاءت الهدنة لتلبي حاجات الطرفين. فالمنصور اضطر إلى قبول المصالحة في أوج انتصاراته ليوقف التمرد في شمال إفريقيا، وطلبت الفرنجة الهدنة لتنظيم أمورها والتفرغ من جديد للمواجهات في المشرق. فالهدنة التي عقدها صلاح الدين مع فرنجة بلاد الشام تنتهي مدتها في سنة 593 هجرية (1197م) وكان من المتوقع عودة المعارك بعد انتهاء فترة مفعولها. وهذا ما حدث إذا استؤنفت الحرب بين الملك العادل (شقيق صلاح الدين) والفرنجة حين حاول التحالف الإفرنجي إعادة احتلال مدينة القدس التي سبق وحررها صلاح الدين في سنة 583 هجرية.
وافق الأمير المنصور على عقد صلح مؤقت في وقت كانت الغلبة لقواته ونجح في افتتاح الحصون والمدن وكسر الإفرنج في معارك حصلت قرب طليطلة ومجريط ومزق جموع صاحب برشلونة ابن اذفونش (الفونس التاسع)؛ لأنه كان بحاجة إلى هدنة لترتيب أوضاع الدولة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2604 - الخميس 22 أكتوبر 2009م الموافق 04 ذي القعدة 1430هـ