لم تكن زيارتي الأولى لواشنطن، كانت المرة الأولى منذ ست عشرة سنة إلى فرجينيا القريبة من واشنطن العاصمة، يومها انشغلت بالتعرف على الأفكار والتلاقي مع البشر وأهملت - كعادتي - الذهاب للمزارات والأمكنة التي يقصدها السائحون.
كنت في مطلع العمر، مازالت الدهشة تملأ عيني، فجلست في المكتبة أطالع الكتب وحاولت مجالسة العلماء المشاركين في الندوة، وتجاهلت عرض الجولة التي تم ترتيبها للضيوف آنذاك.
بعدها بعامين زرت نيويورك لحضور حلقة نقاشية، ولم أشعر في حياتي بالبرد كما شعرت يومها رغم أنني التحفت كل ما كنت أملك من ملابس، لكن برودة تلك المدينة في نهاية يناير/ كانون الثاني كانت عجيبة... برودة الطقس وبرودة المكان، ولم أحبها.
في نهاية التسعينيات زرت بوسطن لحضور مؤتمر، كنت ساعتها أحمل ولدي «علي الدين» في شهر خلقه السابع، ولم أتجول كثيرا لأنني كنت وحدي ومرهقة من الحمل، لكن تجرأت واشتركت في جولة سياحية في قارب يجوب قنوات المدينة، وأعجبتني، وأدركت بعدها أنها أقدم بقعة نزل بها المهاجرون ممن استوطنوا تلك البلاد فارّين بدينهم ينشدون الحرسة وحالمين بأرض جديدة، فأدركت أنني أحب الأماكن ذات التاريخ، وأشعر به - أو بغيابه - حيثما حللت.
كنت زاهدة في جولة في واشنطن هذه المرة أيضا، مكتفية بالمشاركة في مؤتمر بجامعة جورج تاون التي زرتها من قبل وبالإقامة داخل الجامعة في فندق قاعة المؤتمرات، فأنا أحب الحرم الجامعي وأشعر فيه في أي دولة بالراحة والسكينة، أتجول في مراكز بيع الكتب أو أقابل الأساتذة أو أجلس أحتسي مشروبا دافئا وأنا أتأمل الطلاب يسعون للعلم وينضجون ويضعون أقدامهم على أول طريق الحياة المستقلة، ولم أخرج خلال جولة بالسيارة في الأنحاء مع صديقة مصرية كي نتحدث قليلا في شجون العالم، وإفطار مبكر في السابعة مع صديق وزوجته قبل توجههما للعمل في دولاب اقتصاد لا يرحم.
سارة صديقتي البريطانية المسلمة التي أعرفها منذ ست عشرة سنة والتي تشعرني كلما نزلت بلندن أن بيتها هو بيتي قررت أن تخرج لواشنطن لترى البيت الأبيض وتمثال ابراهام لنكولن.
كانت المرة الأولى التي نسافر فيها معا وكنت فرحة بصحبتها الودودة فقبلت أن أصحبها لتلتقط هناك بعض الصور لأنها تكتب تحقيقا عن واشنطن العاصمة في ذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية وتبحث في إسهام المسلمين فيها كمواطنين في دولهم لتنشر ذلك في مجلتها المتميزة «أمل» التي تصدر بالانجليزية في لندن وتغطي هموم وشجون وأحوال الجالية المسلمة في بريطانيا، وتقدم نماذج من نجاحات المسلمين أيا كان مشرب الشخص الثقافي أو درجة التزامه الشعائري، وهو ما حقق لها انتشارا في أوساط متنوعة وقرّب كثيرا من جيل الوسط من أصول إسلامية لدائرة رؤية حضارية للإسلام تحتفي بانتمائهم البريطاني وهويتهم الإسلامية الثقافية.
استحيت أن أتركها تتحرك وحدها، وأردت أن أستغل الفرصة لنتحدث أكثر عن مستقبل الأقليات المسلمة مع واحدة من القيادات النسائية التي اعتنقت الإسلام وصارت تتحدث بلسان المسلمين دوليا، فخرجنا.
توسلت لها أن نأخذ سيارة لكنها أصرت على تقاليد التجوال الغربية فلم أجد بُدّا من أن أتبع خطاها وهي تحمل الخريطة وتتحرك بي من حافلة لقطار تحت الأرض في عاصمة الإمبراطورية الجديدة حتى وقفنا أمام البيت الأبيض.
نظرنا فقالت سارة لابد أننا ضللنا الطريق، فالمبنى صغير رغم اتساع الحديقة، وليس حوله أمن بأكثر مما حول أي سفارة في أي بلد صغير، فتوقفت تسأل أحد رجال الأمن الذي ابتهج بلكنتها الانجليزية الصميمة وأكد لها بلكنته الأميركية الثقيلة أن خريطتها صادقة وأن هذا هو بيتهم الأبيض فعلا. هنا تصاغ سياسات الولايات المتحدة صياغتها النهائية إذا... وتذكرت فلسطين وأفغانستان والعراق... وهموما أخرى.
مشينا بجوار السور فأوقفتنا سيدة عجوز تحمل صورة ملونة ضخمة ليوم الحشر يعبر فيها الناس الصراط فوق جهنم إلى الجنة والصراط فيها على صورة صليب ومكتوب أعلى الصورة: «ألمه هو نجاتنا» (إشارة لصلب المسيح)، وقالت بصوت عالٍ: لن ينفعكم إلا أن تتبعوا المسيح لأنه طريق الخلاص الوحيد، وظلت تكرر مقولتها هذه ونحن نمضي بعد أن شكرناها على تلك الموعظة وودعناها بابتسامات. ها قد تلاقينا مع أفكار اليمين المسيحي التي قادت سياسات بوش للجحيم باسم الديمقراطية، وللحرب بزعم التحرير.
وجدنا درجة التواجد الأمني أعلى في المنطقة الأوسع التي خلف البيت الأبيض، سرنا حول السور وسألنا ضابطا فقال إن هناك اشتباها في سيارة مريبة مما أدى للدفع بعشرات من سيارات الشرطة للمكان، وتجاوزناه ثم قطعنا طريقا طويلا إلى النصب التذكاري للحرب العالمية الثانية حيث وجدنا تجمعات من المحاربين القدامى الذين تجاوزا الثمانين تتلوا الصلوات للرب أن ينصر أميركا دوما، ثم اتخذنا طريقنا إلى تمثال ابراهام لنكولن. تمثال مهيب والحوائط المحيطة به محفور عليها كلماته عن الحرب الأهلية من أجل تحرير العبيد.
أمام المبنى مربع صغير في الأرض محفور عليه كلمات مارتن لوثر كينج «إني أرى حلما»... هنا وقف وألقى خطبته الشهيرة عن حلمه بالمساواة، الكلمات عير واضحة ولو كنت من أهل تلك البلاد لطالبت بأن يتم ملء الحفر بالذهب كي يبرز هذا المَعلم الإنساني. ليس عدلا هذا الصرح وذاك التمثال مقابل هذه البقعة الصغيرة لمناضل من أجل العدل والمساواة.
عدنا سيرا على الأقدام لمحطة القطار، على الطريق طفقنا نسأل عن أقرب محطة لننزل لقطار العاصمة (المترو)، والناس يصفون لنا بالمربع السكني، بعد مربعين إلى اليمين، ثم ثلاثة مربعات إلى اليسار، وسرنا ساعة كاملة، لكننا شاهدنا في الطريق مباني جامعة جورج واشنطن المتناثرة بالقرب من وزارة الخارجية، وتبادلنا الحديث مع بائع جائل، وشاهدنا الطلاب يبيعون الكعك كي يدبروا نفقات الدراسة.
صغيرة هي واشنطن مقارنة بعواصم كثيرة، لكنها في عيننا كبيرة، نتخيلها هائلة ونتصور البيت الأبيض قلعة.
في القطار جلست أتأمل في تصوراتنا عن القوة، وتذكرت مالك بن نبي وعلي شريعتي، نحن الذين نصوغ صورة المستعمر ونمنحه من ضعفنا المقومات التي يبني عليها قوته... بأفكارنا عنه وتوقعاتنا.
حلت منذ أيام ذكرى حرب أكتوبر 1973. كنا آنذاك نتحدى كجيش مصري ووعي عربي أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وهزمنا «إسرائيل»، لكن السياسة سارت بنا مسارات أخرى بددت النصر تبديدا، وتبقى لحظة النصر ملهمة لمن يريد أن يفهم أن الوعي هو مفتاح التغيير، وفي حرب تموز 2006 في لبنان دروس كثيرة فهمتها حين زرت جنوب لبنان للمشاركة في مناصرة أهلنا في الجنوب فأدركت أن العدة والقوة ورباط الخيل يحركها إرادة تغيير صورتنا عن ذاتنا... وتحدي أساطير العدو عن قوته.
في أميركا لاحظت آلة الرأسمالية في تفاصيل الحياة اليومية، وشاهدت التمييز في التعاملات البسيطة مع الملونين والسود، نضال الحرية مسيرة طويلة، والتمييز الكامن في الفرز اليومي في ظروف الحياة والعمل ومنهج التعامل خفي يحتاج عينا لاقطة، وهو ما أكده أحد طلابي من أصل نوبي والذي يدرس في إحدى جامعات واشنطن.
من هناك للندن كانت العودة لأقف في العاصمة البريطانية قبل الوصول للقاهرة، لندن عاصمة الإمبراطورية الآفلة تذكرني دوما أن الأيام... دول، وأنه ما طار طير وارتفع إلا كما طار... وقع. لكن قوى الاستكبار لا تسقط بالأمنيات بل بنضالات الشعوب ضد الاستئثار بالقوة والثروة... وبالمقاومة والعنفوان.
سنن الله لا تتبدل، والتغيير مفتاحه الإدراك والوعي والإرادة والتصميم، ومن هنا تبدأ مسيرة قلب المعادلات وتحدي الإمبراطوريات وبناء النهضة.
في التاريخ عِبَر، وفي السفر دروس، وفي الآفاق والأنفس آيات.
والله أكبر.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2601 - الإثنين 19 أكتوبر 2009م الموافق 01 ذي القعدة 1430هـ