لم يكن الكلام الذي اطلقه الرئيس الايراني السابق ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني اواسط الشهر الماضي ابريل/نيسان، عن امكان الحوار مع الولايات المتحدة الاميركية من قبيل الصدفة، او محاولة لاطلاق بالون اختبار للساحة الداخلية ومدى ردة الفعل التي يمكن ان يحدثها هذا الكلام، وخصوصا انه كان يتحدث عن سياسات ايران الكلية واخراجها عن الاطار الايديولوجي والديني، التي تدخل في هذه النقطة ضمن صلاحيات قائد الثورة آية الله السيد علي الخامنئي ودائرة اختصاصه، فلا هو اعترض على ما ادلى به رفسنجاني ولا الاخير تنصل في التوضيحات التي قدمها لاحقا من حيثيات حديثه.
من هنا يمكن اعتبار الكلام الذي قاله الرئيس محمد خاتمي في مؤتمره الصحافي في ختام زيارته لبيروت عن حوار مستمر مع الادارة الاميركية منذ نحو سنتين، تقريرا لما قاله رفسنجاني وتأكيدا له، اضافة الى انه شكل اول اعلان رسمي من قبل احد اركان النظام عن وجود حوار.
العلاقة مع أميركا وجدل الداخل
الكثير من أقطاب التيار الاصلاحي ينظرون الى هذا الكلام بشيء من الذهول، وخصوصا انهم يعتبرون انفسهم مَن تحمل عبء المواجهة مع القوى الداخلية المعارضة لهم من المحافظين على خلفية هذا الموضوع ومطالبتهم بضرورة اجراء حوار مع واشنطن، وقد بدأت الريبة تبرز في اوساطهم مما قدم إليهم من معلومات بشأن حوار غير مباشر عبر السفارة السويسرية (راعية المصالح الاميركية في ايران)، او من خلال اللقاءات التي يجريها ممثل ايران الدائم في الولايات المتحدة الحالي «جواد ظريفيان» والسابق «نجاد حسينيان» وانها لا تعبر عن واقع الامور وما وصلت اليه، اضافة الى تعاطيهم السلبي مع كلام رفسنجاني الذي فسره بعضهم في حينها انه لا يمثل موقفا رسميا، ورأى فيه محاولة من رفسنجاني ارسال رسائل داخلية تدخل في اطار سعيه لاستقطاب الشارع الشعبي واصلاح صورته وموقعه الذي تراجع كثيرا منذ وصول خاتمي الى رئاسة الجمهورية، تمهيدا للتوظيف المبكر لذلك في معركة انتخابات رئاسة الجمهورية القادمة لشخصه أو أحد الاشخاص من دائرته، اضافة الى رسائل خارجية قد توحي للادارة الاميركية ومن معها بانه الشخص القادر على احداث تحول او تغيير على صعيد هذه العلاقة وما يعتريها من توتر تراوح بين العداء المفرط والغزل المتردد على مدى عقدين ونصف.
غير ان كلام خاتمي عن وجود حوار والذي اكده زلماي خليل زاد واسهب في شرح تفاصيله من افغانستان الى فلسطين، احدث الصدمة التي قد تساهم في زعزعة تماسك الاصلاحيين واصطفافهم خلف خاتمي الذي ظهر وكأنه يغرد خارج سربهم، وانه راح يلعب لعبتهم لكن مع لاعبين آخرين يبدو في الظاهر انهم معارضون للامر.
بعض المراقبين الايرانيين يرى ان الحديث عن تخفيف التوتر او اعادة العلاقات مع اميركا في هذه المرحلة يعد تراجعا ايرانيا فرضه الوجود العسكري في العراق، وهو يشابه الهزيمة امام الضغوط او المخاوف، ويدلل على سوء التقدير في قراءة المتحولات وتقدير نتائجها، وخصوصا ان المجال لفتح هذا الحوار كان اكثر إمكانا، ومن موقع افضل اثناء وبعد الازمة الافغانية مباشرة، وبالتالي قطع الطريق على كل ما قد يواجه ايران الآن او ما سيواجهها في المستقبل.
الحديث او الجدل بشأن عودة العلاقات الايرانية - الاميركية او عدمها، وكذلك عن الحوار مع الادارة الاميركية، هو جدل يدخل في اطار تحديد الاولويات، ولا يقتصر على الجماعات المحسوبة على التيار الاصلاحي، بل انتقلت عدواه الى داخل التيار المحافظ ايضا، بشكل ينذر بحدوث افتراق بين انصاره على هذه الخلفية، ووحده قائد الثورة يمتلك القدرة على ترجيح احد القطبين على الآخر، وهنا كان الاصلاحيون يراهنون على حكمة السيد الخامنئي في قراءة التحولات والتحديات، وبالتالي قطع الطريق على المتطرفين من المحافظين الذين اذا ما قدرت لهم الغلبة، فانهم سيدخلون البلد في مغامرة امنية لا يمكن توقع نتائجها التي ستكون سلبية بلاشك.
لقد حدد الاصلاحيون منذ وصول خاتمي الى الرئاسة في المرة الاولى، وتاليا بعد حصولهم على الغالبية في مجلس النواب، الاسس والمفردات التي يمكنها ان تشكل مدخلا للحوار او عودة العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية بشكل صريح وعلني، وهذه الاسس تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشئون الداخلية ورفع الحصار الاقتصادي واعادة الارصدة الايرانية المجمدة في المصارف الاميركية. الامر الذي شكل مدخلا لهجوم قاس وشديد من قبل التيار المحافظ او المعادي لعودة العلاقات او حتى الحديث عنها.
وعلى رغم ان التيار الاصلاحي تحمل عبء ومسئولية الحديث العلني عن هذا الامر، فإن الوقائع اشارت الى ان الكلام كان يصدر من مكان (الاصلاحيين) والفعل من مكان آخر(المحافظين) الامر الذي خلق ازمة سياسية لخاتمي الذي كان مستبعدا عن اجواء ما يحدث في حينها، ما جعله يهدد بالاستقالة وترك الرئاسة لانه لا يريد ان يكون رئيسا صوريا.
فالتيار الاصلاحي، الذي زاد من وتيرة حديثه عن العلاقات الايرانية - الاميركية وضرورة عودتها، وخصوصا بعد افغانستان، كان كما ترى بعض قيادته، ينطلق من واقعية ايرانية في قراءة متحولات المنطقة، وعدم قدرة ايران على المراهنة بشكل كبير على ما يمكن ان يفعله بعض حلفائها وخصوصا موسكو، لان التنسيق الايراني الروسي في افغانستان كان ضرورة ايرانية اكثر منه ضرورة روسية، وبالتالي، فان الوجود الاميركي في العراق، قد يساعد في قلب الكثير من الموازين والتقديرات، مع ادراكهم تماما ان ايران ستتحول الى حاجة روسية امنيا واستراتيجيا. من هنا يقولون بضرورة عودة العلاقات مع واشنطن في المرحلة الاولى، ومن ثم الانطلاق بحوار جاد وفاعل بشأن كل نقاط الخلاف وكل الموضوعات التي شكلت توترا في المواقف بينهما.
وقد كان الاصلاحيون يسوغون اولوياتهم بشأن الجدل الاميركي في الداخل، وترتيبه انطلاقا من عودة العلاقات ثم الحوار، لعدم وجود امكان للتوصل الى نقاط مشتركة بشكل سريع من خلال الحوار الذي قد يطول، لذلك لابد من عودة العلاقات اولا، ومن ثم الدخول في التفاصيل.
اما التيار المحافظ، وعلى خلفية الموضوع الاميركي، يتوزع اليوم على محورين او توجهين متناقضين. الاول وهو توجه متطرف مقرب او يعبر عن اجواء تيار في المؤسسة العسكرية، ويتذرع بأن الوجود الاميركي في العراق بعد افغانستان يشكل استكمالا لحلقة الحصار على ايران، وهذا الامر يستدعي نقل ايران الى حال عسكرية لمواجهة التهديدات والتحديات الاميركية الواقفة على الابواب، وبالتالي يرون ضرورة اعلان حال طوارئ وقمع التوجهات الداعية الى الحوار او عودة العلاقات مع اميركا. وهو ما شكل نقطة ارتكزت عليها تصريحات القيادات العسكرية لحرس الثورة الاسلامية خلال مرحلة ما بعد افغانستان.
اما التوجه الثاني، والذي لا يعارض الحديث عن عودة الحوار او العلاقات، ويرى امكان واقع لفتح المجال امام النقاش في هذا الامر، الا ان الخلافات تعصف في داخله، وهذه المرة بشأن الاولويات، اذ يرى قسم من هؤلاء ضرورة البدء بالحوار لاختبار النوايا الاميركية اتجاه ايران وما الذي تطلبه الادارة الاميركية، في حين يرى القسم الآخر ضرورة عودة العلاقات اولا ومن ثم الحوار، لان ذلك يمهد الطريق للقاء مباشر من دون وسائط او وساطة قد تعمد الى استثمار ذلك لحسابها الخاص، الا ان التطورات الاخيرة اشارت الى توافق بين الاتجاهين تحت سقف قائد الثورة وعلمه بما يدور.
إن أهم ما حملته زيارة خاتمي للبنان، ومروره على سورية في زيارة غير رسمية، والتي تزامنت مع وجود مفوض العلاقات الخارجية في الاتحاد الاوروبي خافيير سولانا في دمشق حاملا نسخة عن خريطة الطريق ولقائه وزير الخارجية الايراني كمال خرازي، ومن ثم استكمالها بجولة عربية، يمكن تلخيصه في محورين اساسيين من محاور النقاش مع الادارة الاميركية في الآونة الاخيرة.
اولا: ارسال اشارات واضحة بشأن الملف الفلسطيني وعدم ممانعة ايران لعملية السلام في الشرق الاوسط، وخصوصا على الخط الفلسطيني وخريطة الطريق، وقد شكلت البوابة اللبنانية، ونافذة حزب الله فيها المدخل الرئيس لذلك، وان ما نقله خاتمي لقيادات حزب الله لم يكن تعبيرا عن موقفه بوصفه رئيسا ايرانيا يمثل التيار الاصلاحي ووجد تعبيراته في تأكيد لبنانية الحزب وانه من نتاج النسيج والوضع اللبناني، بل كان بمثابة رسول امين في نقل التوجهات الجديدة للعمق الاستراتيجي الايراني إلى الحزب، ولعل رد الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله الاخير تعليقا على كلام وزير الخارجية الاميركي كولن باول واتهامه حزب الله وحركة حماس والجهاد الاسلامي بالارهاب، بالقول ان كلام باول يشكل محاولة ضغط على هذه الاطراف لاجبارها على التخلي عن مبادئها، في حين كانت وتيرة التهديد والتصعيد هي المسيطرة في الماضي القريب، الامر الذي يوحي بان الكلام عن دعم المقاومة المشروعة الذي صرح به خاتمي كان من باب الالتزام الاخلاقي في حين ان الكلام غير المعلن تجاوز ذلك بكثير. على رغم ان الفاتورة ستكون كبيرة على كلا الطرفين، لان الموقف الايراني يزداد تعقيدا وحرجا، لتداخل عوامل عدة في تركيبته، من دينية وعقائدية وشيعية، وبالتالي الخوف من الاتهام بالخيانة كما عبر احد المسئولين الايرانيين.
وقد كان وزير الخارجية كمال خرازي قد بعث اشارات سابقة من على منبر الامم المتحدة قبل أشهر، حين أكد ان إيران لن تمانع أي اتفاق يتوصل اليه الفلسطينيون مع الجانب الاسرائيلي، حتى ولو ادى الى اقامة دولتين لانه شأن فلسطيني خاص، من دون ان يعني تخلي ايران عن موقفها المبدئي من هذه القضية فضلا عن ان كل الدول العربية قد دخلت في آليات عملية السلام، فلماذا تقف ايران وحدها في مواجهتها.
ثانيا : التعاون الجدي الايراني في موضوع او ملف دعم الحركات الارهابية، واذا ما كانت ايران قد قدمت ما بامكانها فيما يتعلق بعملية السلام وتشعباتها في لبنان وداخل فلسطين (حزب الله والجهاد وحماس) الا ان المطلوب منها في المرحلة المقبلة أكثر بكثير من ذلك، وهو مرتبط بالملف الافغاني الذي تواجه فيه الادارة الاميركية الكثير من الارباكات، وخصوصا في الجانب الامني والسيطرة على بعض الفصائل، وهنا تتهم واشنطن طهران بانها تقف وراء حليفها القديم، والحليف الجديد لحركة الطالبان (حكمتيار)، وكذلك فيما يتعلق بالملف العراقي والخشية الاميركية من حركة شيعية منظمة قد تعرقل مخططاتها لهذا البلد، ولعل اولى بوادر التفاهم في هذا الملف ما حدث من مبادلة في موضوع عودة محمدباقر الحكيم الى العراق ومصادرة سلاح منظمة مجاهدي خلق (المنافقين) المعارضة لطهران، اذ كانت طهران تخشى من ان تسمح قوات التحالف للمنافقين باستئناف نشاطهم العسكري ضدها وتصر ايضا على عودة الحكيم الى النجف، في حين تولى السفير البريطاني في طهران نقل المطالب الاميركية بعدم السعي او المطالبة إلى اقامة دولة اسلامية ستكون شيعية في العراق. وعلى هذا الاساس كانت عودة الحكيم.
اما الملف النووي، فعلى رغم انه قد يشكل ورقة الضغط الاميركية على طهران في المستقبل للحصول على المزيد من التنازلات، فان طهران مطالبة بان تثبت جدية البعد السلمي لبرنامجها اضافة الى تخليها عن السعي للحصول على السلاح النووي او سلاح الدمار الشامل.
وفي هذه النقطة تبدي ايران تجاوبا كاملا، وتصر على موقفها المطالب بنزع اسلحة الدمار الشامل في كل منطقة الشرق الاوسط. على رغم ان الشرق الاوسط لا يشكل هاجسا لها في هذا الاطار، بل تنظر باتجاه آخر، يمتد الى منطقة آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية بشقيها الهند وباكستان، وتسعى لايجاد توازن معهما على خلفية ما لهذه المنطقة من دور في المستقبل ومن انها ستكون نقطة الصراع القادم، وانطلاقا من هذه النقطة يمكن قراءة الزيارة التي قام بها (ريتشارد ارميتاج) لاسلام آباد ونيودلهي، والعرض الذي قدمته باكستان واعلان استعدادها للتخلي عن سلاحها النووي اذا ما وافقت الهند على الامر نفسه، لكن رفض الهند لهذا العرض عقد من مهمة ارميتاج، وشكل ذريعة لايران لاستمرار الجدل عن برنامجها النووي على رغم النصيحة الواضحة التي حملها وزير الخارجية الفرنسي دومنيك دو فيلبان أخيرا الى طهران بضرورة القبول بتوقيع البروتوكولات الاضافية لمنظمة الطاقة الدولية عن التفتيش المفاجئ قبل زيارة الامين العام للمنظمة محمد البرادعي لطهران الشهر المقبل وتفويت الفرصة على الادارة الاميركية وتهديداتها
العدد 260 - الجمعة 23 مايو 2003م الموافق 21 ربيع الاول 1424هـ