شئنا أم بينا فنحن مختلفون، كأفراد وكطوائف وكجماعات وكجماعات سياسية وتيارات فكرية، والمسألة هي كيف نؤسس لثقافة الاختلاف والاعتراف بالآخر فيما بيننا، كيف نفهم التعددية ونمارسها على أرض الواقع، ثم كيف نحولها إلى قوة تضيف إلى مجتمعنا مزيدا من التنوع والغنى الثقافي والسياسي؟
في البداية يجب أن نعرف مجتمعنا كما هو، لا كما نتخيل أو نريد، وأن نتقبله مثلما هو، بانتماءات ابنائه ومعتقداتهم المختلفة، من دون عقد أو شعور بالنقص. ثانيا، أن لا نخاف أو نخجل من الاعتراف والتصريح باختلافنا. بل علينا أن نعتز بأفكارنا وانتماءاتنا وعقائدنا، علينا أن نفتخر بها لأنها امتداد لذواتنا وشخصيتنا، بصرف النظر عن آراء وتقديرات الآخرين.
ثم علينا أن نقتنع بأنه في الانتماءات الدينية أو الفكرية أو السياسية لا يوجد أفضل أو أسوأ، فجميع الانتماءات تستحق الاحترام والتقدير. الأفضل أو الأسوأ، هما حكمان قيمان يصدران عن معيار نسبي، وبالتالي فهما ينطبقان على الممارسات والسلوكيات والأقوال، أي عن ما ينتج عن الانتماءات وليس الانتماءات نفسها.
ورابعا، الايمان بأننا على رغم اختلاف انتماءاتنا فنحن متساوون أمام الدستور والقانون. وذكر الدستور هنا (وليس شيئا آخر) مقصود لأنه كأي عقد اجتماعي يؤسس لمفهوم المواطنة، وهي الشكل الأرقى لوضع الأفراد في الدولة الحديثة.
هذه العناصر الجوهرية، هي التي يمكن التأسيس عليها لايجاد ثقافة الاختلاف والاعتراف بالآخر. لكن وجود هذه الثقافة لا يكفي بحد ذاته، فلا بد أن نعرف كيف ندير هذا الاختلاف ونولد القدرة والقوة الكامنة فيه، لخير المجتمع وتطور التجربة الديمقراطية الناشئة.
وإدارة الاختلاف، هي ككل إدارة، معنية بضبط العلاقات بين الأطراف المختلفة ضمن حدود وأهداف مقبولة. إنها معنية باكتشاف القواسم المشتركة بين هذه الأطراف وتعظيمها، وأخيرا هي معنية بتوجيه الجهد الناتج ليصب ضمن المصلحة العامة للمواطنين.
الواقع إننا في البحرين نعرف أن هناك منذ أربعينات القرن العشرين على الأقل تيارات فكرية وسياسية عديدة تنشط، بعضها إسلامي وبعضها يساري وبعضها قومي وبعضها ليبرالي.
هذه التيارات، على اختلافها في الحجم والتأثير الجماهيري والسياسي، مارست دورها ونشاطها في فترات مختلفة على الساحة في البلاد. بعضها شهد انتعاشا في فترة ثم خفوت وانكسار في فترة أخرى، وبعضها ولد متأخرا وضعيفا، ثم سرعان ما اشتد عوده وأصبح له الحضور الأوسع بين الناس. لكن معظمها واجه تحديات الواقع الصعبة، بما في ذلك شراسة قانون وأجهزة أمن الدولة.
هذه التيارات التي كانت موجودة بحكم الواقع ومعروفة بأسمائها، ولكن المغيبة بحكم القانون، خرجت إلى السطح قبل عامين لتنتظم في إطار جمعيات سياسية معترف بها، وللمرة الأولى تمارس نشاطها العلني وتكشف على هذا النحو عن شخوصها وبرامجها وأفكارها.
هذه التيارات بتلاوينها المختلفة، تعكس إلى حد كبير توجهات المواطنين وانتماءاتهم الطائفية والثقافية. إنها بتعبير آخر مجتمعنا البحريني على حقيقته، كما هو، لا كما يبدو في أجهزة الإعلام الرسمية التي تصر حتى يوم الناس هذا علي إخفاء الاختلافات بين المواطنين، واظهارهم ككتلة واحدة كما لو أنها تشعر بالعار أو الخجل حين تتحدث عن تيار يساري شيوعي أو بعثي أو عن تيار إسلامي شيعي أو كأنها تخلق واقعا غير موجود.
إن تسمية الناس بأسمائهم الصحيحة أو تلك التي يحبون أن يسموا بها هي من أوليات الاحترام تجاههم. الاعتراف بوجود هذه التيارات المستقل هو أو خطوة في طريق إدارة الاختلاف فيما بينها.
فنحن يجب أن نعترف بان أي تيار له الحق في الوجود الفكري والسياسي في مجتمعنا، على قدم المساواة مع جميع التيارات الأخرى. وله الحق في الاستفادة من جميع امكانات الدولة وما يوفره القانون من مساحات للعمل ونشر الفكر والمبادىء التي يعتقد بها.
والخطوة الثانية هي الدفاع عن حق الآخر في الوجود، بغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا معه، ما دام أنه يحترم العقد الاجتماعي (الدستور) بين المواطنين. إن دفاعنا عن وجوده هو دفاع عن وجودنا في الوقت نفسه. وسواء عارض الحكومة أو تحالف معها، وسواء قاطع الانتخابات أو شارك فيها، وسواء أيدنا في هذا الموقف أو انتقدنا فيه. فان هذا لا ينبغي أن يمس حقة في الوجود السياسي والفكري ناهيك عن القانوني بالطبع. ولذلك ينبغي الكف عن بعض المظاهر المزعجة التي نصادفها هذه الأيام (على هامش الانتخابات) والهادفة إلى تخوين تيار معين أو الحط من شأن تيار آخر.
وثالثا، الحوار بين التيارات. إن الحوار لا يجب أن يستهدف فقط تقليل مساحات الاحتكاك بين هذه التيارات أو التقريب بينها أو إنجاز تحالف سياسي في مرحلة ما، وإنما يجب أن يكون ممارسة سياسية دائمة، تهدف إلى ترسيخ قيمة الحوار كشكل متقدم وحضاري للعلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية.
ومن بديهيات الأشياء ان أي حوار لا يعني (ولا يجب أن يعني) نسخ القناعات أو تبديلها، وإنما إيصال المواقف وتبادل الأفكار والآراء بصورة مباشرة، بدلا من تركها عرضة للقيل والقال أو للاستخدام السياسي السيىء من جانب المتصيدين في المياه العكرة. وما يدفع للتفاؤل في هذا الصدد أن التيارات السياسية والفكرية في البحرين أثبتت حتي الآن على رغم الاختلافات الواسعة فيما بينها أنها على درجة كبيرة من الوعي والتحضر.
والحال أن تأسيس ثقافة الاختلاف ليس بالأمر الهين، في مجتمع لا يزال يخطوا أولى خطواته، نحو الانفتاح والعلنية، والاصلاح السياسي. لكن لهذا السبب بالذات، لأننا في هذه المرحلة الأولية، فإن تأسيس مثل هذه الثقافة يكتسب أهمية بالغة، لأنه من دون ذلك يمكن أن تتحول الاختلافات إلى خلافات والمساجلات الكلامية حول قضية سياسية ما قد تغرق ساحتنا المحلية في مهاترات يتطاير شررها يمينا وشمالا. والحيلولة دون ذلك هو هدف يستحق أن نجتهد جميعا في الوصول إليه.
كاتب بحريني
العدد 26 - الثلثاء 01 أكتوبر 2002م الموافق 24 رجب 1423هـ