لقد جاء منح جائزة نوبل للسلام للرئيس الأميركي باراك أوباما مفاجأة بجميع المقاييس. فهو لم يمض عليه سوى بعضة شهور في منصبه، وهو لايزال في بداية فترة عمله، كما أن نواياه الحقيقة للعمل لاتزال محدودة في إنجازاتها ومع ذلك فإن اللجنة الترويجية للسلام التي تمنح الجائزة قررت اختيار أوباما رغم وجود أكثر من مئتي مرشح الحصول على الجائزة.
ولقد أثار قرار اللجنة الترويجية عدة تساؤلات في مقدمتها هل القرار مبني على حيثيات موضوعية ترتبط بنظام الجائزة؟ أم أن اعتبارات سياسية هي التي أملت هذا القرار؟ وهل من المنطق إعطاء الجائزة لرئيس في موقعة خاصة أنه رئيس أكبر دولة ويترأس بحكم منصبه أكبر جيش في العالم وله تدخلات في حروب أو مناوشات عسكرية في كثير من مناطق العالم؟ وهل تعطى الجائزة نتيجة قيام من يحصل عليها بإنجازات واضحة سابقة على منحه إياها أم نتيجة لنواياه الطبية؟ وتساؤلات كثيرة.
ولقد شاء حظي أن أعمل في سفارة مصرفي النرويج في سبعينيات القرن الماضي وأن أكون متابعا عن كثب لجائزة نوبل والقرارات المتصلة بها وللتعليقات الكثيرة التي أحاطت بمنحها وقد منحت اللجنة جائزة نوبل للسلام العام 1978 للرئيس المصري محمد أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيل مناحم بيجين مناصفة نتيجة مبادرة الرئيس السادات بزيارة القدس وكسر حاجز العداء العربي الإسرائيلي وإطلاق مبادرة للسلام وكان التساؤل آنذاك إذا كان قرار السادات بزيارة القدس هو قرارا شجاعا فإن استجابة بيجين لم تكن بنفس المستوى فلماذا يتم تقسيم الجائزة مناصفة؟
ولقد طرقت دائما تساؤلات وشكوك حول دوافع إعطاء جائزة نوبل للسلام فقد منحت في أتون الحرب الباردة في منتصف السبعينيات للمنشق السوفيتي سخاروف وتم منح الجائزة للمعارضة ان سوكي في ميانمار (بورما) وكل دورها هو معارضة النظام العسكري في بلادها وغير ذلك كثير.
فاذا قارنا أعمال كثير من الشخصيات التي منحت الجائزة عبر السنين نجد عددا كبيرا منهم موضع تساؤل وشكوك في أحقيتهم. ولكن هذه الشكوك هي من وجهة نظرنا كباحثين أو مراقبين إلا أن أصحاب القرار في اللجنة الخماسية لهم رؤيتهم الأخرى وهي مدى شجاعة الشخص الذي يمنح الجائزة في قراراته غير التقليدية ومدى قدرته على تحريك التغيير في بلاده وفي منطقته الجغرافية ومنها مدى تحديه للظلم المحيط ببلاده وشعبه ومنها قيامه بطرح أفكار لتغيير الاقتصاد لخدمة المواطن كما هو حالة محمد يونس في بنجلاديش أو تحريك المياه الراكدة في بلاده ضد السلطة القمعية كما في حالة سخاروف في الاتحاد السوفيتي السابق ونحو ذلك.
ولابد أن نقول إن اللجنة تؤمن بعملية فرزالمرشحين وفقا لمعيار مرن فالمرشحون يأتون من الكثير من مناطق العالم ومن مختلف الحضارات والثقافات والشعوب واللجنة قرارها ديمقراطي يمكن أن تكون ثلاثة مقابل اثنين فهي ليست بالضرورة إجماعية في قراراتها ولا تكشف عادة عن مداولاتها ولكنها تعلن حيثيات قرارها النهائي ولا تشير للرأي المخالف إذا وجد حفاظا على قدسية واحترام القرار.
والتساؤل المطروح بخصوص الرئيس أوباما نجد أنه تساؤل في موضعه فمفهوم القبول العام هو مفهوم عربي بامتياز يرتبط بالنزعة السلطوية. ومن ثم فإن القرار الخاص بمنح الجائزة لأوباما لابد أن يكون له مؤيدوه ومعارضوه وباعتباري من المتابعين للشئون الدولية أقول إن باراك أوباما يستحق الجائزة وفقا لتقاليد اللجنة المختصة فهو قام بأعمال وأطلق مبادرات حركت المياه الراكدة في العلاقات الدولية وأحيت عدة مبادئ تجاهلتها الولايات المتحدة لسنوات طويلة. فقد أطلق عملية التعامل الدبلوماسي في العلاقات الدولية وهي التي تم تجاهلها عبر مدى 8 سنوات على الأقل طوال حكم الرئيس جورج دبليو بوش. وأدى هذا الإطلاق إلى نتائج منها تحريك الملف الخاص بالبرنامج النووي الإيراني بمباحثات مباشرة لوحت خلالها إيران لأول مرة بالاستعداد لنقل مخلفات الوقود النووي خارج حدودها، كما وافقت على تفتيش دولي للمنشأة النووية الجديدة الخاصة بتخصيب اليورانيوم وهي المنشأة التي أثارت لغطا كثيرا حول مصداقية ما تعلنه إيران من برنامج نووي للأغراض السلمية، وحرك عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، وحرك عملية السلام في دارفور ووإعلان انفتاح على سوريا وتوقف عن إطلاق شعار تغيير النظم السياسية في العالم وفي مقدمته الشرق الأوسط وهو الشعار أو السياسة التي اتبعها الرئيس بوش وأوقف برنامجا للصواريخ في تشيكيا وبولندا وهو الأمر الذي كان موضع نقد شديد وتوتر مع الاتحاد الروسي منذ نهيار الاتحاد السوفيتي ومن ثم فتح صفحة جديدة في علاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد الروسي، وسعى للانفتاح على خصوم الولايات المتحدة في أميركا الجنوبية وخاصة فتزويلا وبادر بإطلاق تغيير في مفاهيم الاقتصاد لكي يتسنى معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية ويتزعم مبادرة للتأمين الصحي في الولايات المتحدة ليتسنى توسيع شبكة الرعاية الصحية لغير القادرين.
وأعاد تصحيح صورة الولايات المتحدة في عدد من الدول الإسلامية بخطابه في جامعة القاهرة الموجه للعالم الإسلامي في يونيو/ حزيران 2009.
ولكن الأهم من كل ذلك في تقديري حقيقتين مهمتين الأولى صدقية باراك أوباما فهو يعلن ما يؤمن به ويعتقد فيه ومن ثم فهو صادق مع نفسه. وليس مخادعا مثل كثير من السياسيين سواء في الدول المتقدمة أو الدول النامية.
الثانية هي اتساق مواقفه فما أعلنه في فترة السباق الانتخابي سرعان ما بادر إلى وضعه موضع التنفيذ وإن كان بتروٍ وتأنٍ ولكنه عمل دائب. وفي الحياة السياسية والاجتماعية فإن النتائج لا يمكن تحقيقها بين عشية وضحاها.
أما بالنسبة للتساؤل عن النوايا والإنجازات أو عن الرئيس الجالس في منصبه فإن الإجابة على ذلك في تقديري يمكن القول بشأنها أن اللجنة تمنح الجائزة على النوايا أو اللمحات واللفتات فهي على سبيل المثال منحت الجائزة مرتين لشخصيات السادات وبيجين، ثم لياسر عرفات ورابين ورغم مضنى أكثر من ثلاثة عقود فمازال السلام لم يتحقق بل ويبدو حل المشكلة الفلسطينية أبعد اليوم مما كان عليه الأمر عندما منح عرفات ورابين جائزة السلام. ومنحت الجائزة لمحمد يونس وبنك الفقراء رغم استمرار حالة الفقر في بنجلاديش وثم منحت الجائزة لشخصيات كثيرة ولم تتحقق أهداف أعمالهم أو مبادراتهم ولكنهم استحقوا الجائزة على مواقف وقرارات وتصرفات اتخذوها.
أما بالنسبة للرئيس الجالس فقد سبق منحها للرئيس الأميركي ودرو ويلسون للنقاط الأربعة عشرة للسلام التي أعلنها أثناء الحرب العالمية الأولى ولسعيه لبناء عالم ما بعد الحرب وإنشاء عصبة الأمم رغم إخفاقه في انضمام الولايات المتحدة نفسها لتلك العصبة. كما منحت للرئيس السادات ولرئيس الوزراء بيجين وهما في السلطة نقول إنه ليس هناك في قواعد العمل في الجائزة ما يمنع منحها لرئيس في منصبه إنه قرار دول متقدمة وأناس أعضاء في لجنة لا يجاملون الحكام ولا ينافقونهم إنه قرار قد نختلف بشأنه وهذا طبيعي ولكنه قرار ذو مصداقية لأن أصحابه أناس ذووا مصداقية وأمانة ونزاهة كل هذا في حدود المعايير الإنسانية وكذلك هم ذو نظرة مستقبلية فهم يرون أن أي قرار للرئيس الأميركي يغير العالم وأن أوباما صادق في مقولاته وأطروحاته من أجل عالم خال من الأسلحة النووية وربما نقول إن هذه أطروحة مثالية وغير واقعية إلا أن طرحها بصدق هو الأهم ولو نجح أوباما في تنفيذ نصف أو حتى ربع أطروحاته فإن ذلك سيغير العالم بحق أكثر مما غيره عشرات الشخصيات التي سبق ومنحت جائزة نوبل للسلام دون أن يقلل ذلك من استحقاقهم للجائزة. وختاما مبروك لأوباما بالجائزة وشكرا للجنة نوبل على قرارها الشجاع وتطلعا نحو إنجازات عملية يقوم بها أوباما لمصلحة السلام
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2592 - السبت 10 أكتوبر 2009م الموافق 21 شوال 1430هـ