فيما كنت أتجول بين أروقة معرض الكتاب السابع عشر، لمحتهما في جناح مؤسسة الدراسات العربية، مستغرقين في نقاش مع صاحب المؤسسة د. ماهر الكيالي.
استغربت الأمر بعض الشيء، فلم تكن، على حد علمي، تربط أي منهما أية علاقة مع الكيالي. اقتربت من الجناح، ولم أكد أن انتهي من تبادل التحية مع الكيالي، حتى اقتربت مني السيدة فوزية مطر، وبادرت إلى إدخال يدها في كيس كانت تحمله لتخرج منه كتابا عليه صورة زوجها أحمد الشملان، الذي كان إلى جانبها.
انتابتني الدهشة. كنت أعرف أن للشملان الكثير من الكتابات، لكنها لا يمكن، حتى إذا جمعت، أن تصل إلى كتاب يقع فيما يزيد على الألف صفحة.
لم تطل دهشتي فقد ساعد العنوان «أحمد الشملان سيرة مناضل وتاريخ وطن»، يعلوه اسم المؤلفة «فوزية مطر»، في كشف المكنون.
تناولت الكتاب، فإذا هو سفر يؤرخ لمسيرة الشملان النضالية، ويؤثث لبيت فترة مهمة من تاريخ البحرين المعاصر.
تصفحت الكتاب، لم تتمكن فوزية من إهدائي نسخة من الكتاب، إذ لم يكن بحوزتها حينها أكثر من نسختين، إحداهما كانت من نصيب إدارة المطبوعات لنيل فسح التوزيع في البحرين.
حملت نفسي وغادرت المعرض، وتحاملت عليها في المساء، وقررت الإتصال بفوزية كي أطلب منها إعارتي النسخة التي بحوزتها. لكنها اعتذرت بحياء، واقترحت، عوضا عن ذلك، أن تبعث لي بنسختها الإلكترونية. قرأتها بنهم... أخذتني من دون وعي أو قرار إلى سنوات وأحداث تكاد السنون أن تمحوها من الذاكرة. اتخذت قرارا بكتابة مراجعة للكتاب، على أن تكون مختلفة نوعيا عن المراجعات التقليدية، تماما كما جاء الكتاب متميزا عن كتب سبقته، حاولت أن تؤرخ للحقبة ذاتها.
تناولت الهاتف وقررت أن تكون المراجعة حوارا مع المؤلفة فبادرتها بسؤال، كان يلح علي وأنا أنهل من مادة الكتاب الغنية والممتعة في آن، ما هي التحديات أو ربما العقبات التي واجهتك وأنت تدونين مادة الكتاب. وكم استغربتُ حين جاءني جوابها، كمن كان يتوقع مثل هذا السؤال، سلسا على النحو التالي:
أول العقبات كانت ذات طابع منهجي، بمعنى هل أتناول الأحداث بمدخل تحليلي، أم أصوغها بشكل سردي. بالطبع لكل منهما حسناته ومثالبه.
كان القرار أن أنتظر لحين الانتهاء من جمع المادة. لكن لا أخفيك أن طبيعة المادة فرضت عليّ اختيار منهج متداخل بعض الشيء، ففي بعض المحطات كان لابد لي من التوقف والاستعانة بمسحة من التحليل الذي لابد منه، في حين وجدت نفسي في حالات أخرى أكتفي بأن أصف الأحداث وأترك القارئ يستمتع باستخلاص النتائج عبر تحليلاته الذاتية، آخذة بعين الاعتبار أن نسبة عالية ممن سيقرأون الكتاب، كانوا عنصرا من عناصر الأحداث ذاتها.
ثاني التحديات التي واجهتها، وبصدق، كانت حالة أحمد الصحية، فمن جهة أنا لم أكن أكتب سيرة شخصية، غادرتنا، لا قدر الله، لكنها في الوقت ذاته، تعاني من ضريبة نضالية أدت إلى تقليص قدرتها على المساهمة في سرد بعض الأحداث أو تأكيد بعضها الآخر.
الوضع الصحي لأحمد، عندما كنت أدون الكتاب، ولايزال بالطبع، لم يكن يعينه، ومن ثم يساعدني على التأكد من صحة بعض الأحداث أو وضعها في سياقها التاريخي الدقيق، الأمر الذي كان يضاعف من جهود البحث والتقصي، من أجل تحاشي أي تشويه لتاريخ البحرين، ومن بين ثناياه تاريخ مناضلين من أمثال الشملان.
بالطبع، كان لأحمد القدرة على تأكيد الأمور حينما تقترب من صيغتها النهائية.
ثالث العقبات نابعة من تاريخ أحمد الشملان ذاته، الذي لم يكن خطا مستقيما، نظرا لانضمام الشملان لأكثر من تنظيم سياسي وطني، بدءا من حركة القوميين العرب، مرورا بالجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل ومعها «الحركة الثورية»، انتهاء بتنظيم «جبهة التحرير الوطني»، ووصوله إلى مراتب قيادية فيها، جميعا جعلته في صلب صنع القرارات التاريخية التي اتخذتها هذه التنظيمات.
هذا يحول سيرة الشملان إلى قصة ثلاثية الأبعاد، تجعل من يدونها ينتابه شعور من يسير في حقل من الألغام نظرا لطبيعة العمل السري الذي يكتنف عمل تلك التنظيمات من جهة، وخشيتي من أن يؤدي سرد هذه الحكاية أو تلك، على نحو مغاير للظروف التي وقعت فيها، إلى الإساءة، غير المقصودة، لأي من تلك التنظيمات التي لايزال الشملان، وأنا معه نكن لها، ولكل أفرادها، الاحترام والتقدير.
رابع التحديات، مصدره، تداخل العلاقة التي تربطني بالشملان كإنسانة، قبل أن أكون رفيقة نضال، أو زوجة. فقد شدني للشملان الكثير من الخصال والسلوكيات التي تجسدت في ممارساته النضالية. وجدت الكثير من الصعوبات في التقيد بالموضوعية والأمانة المهنية التي تستطيع أن تميز بدقة بين تلك العلاقات الثلاث، دون أن تفقد مادة الكتاب بعدها الإنساني النابع من علاقة أحمد المميزة مع زوايا مثلث حياته، والتي هي: الوطن، التنظيم، الأسرة. لا أخفيك القول إن تداخل زوايا هذا المثلث أضافت إلى الكتابة عن أحمد بعض المشقة، لكنها كانت مشقة ممتعة بالنسبة لي، وخاصة إذا نجحت، وإنا بانتظار ردود فعل القراء، في الاحتفاظ بالتوازن الموضوعي المطلوب لإنجاز مثل هذا العمل.
خامس التحديات، كان جمع المادة، والتي يمكن تقسيمها إلى أربع فئات، الأولى علنية قام أحمد بنشرها موقعة باسمه أو أسماء مستعارة في أوعية معلومات مصرحة. الثانية تلك التي كتبها، ومن دون أثر يدل عليها في المطبوعات السرية للتنظيمات التي انتسب لها، فهناك صعوبة في الوصول إلى تلك النشرات السرية أولا، ومعرفة إسهامات أحمد فيها ثانيا، أما المصدر الثالث، وهو تلك الأدبيات الحزبية، العلنية منها والسرية، التي صيغت بشكل جماعي، وكان لأحمد إسهامات أساسية فيها، أما المصدر الرابع، وهو الأكثر تحديا، فهي الشهادات الحيّة من رفاق أحمد الذين عايشهم، وهم منتشرون من مصر، مرورا بلبنان وفلسطين، تعريجا على اليمن وعُمان قبل أن نحط الرحال في البحرين. إقناع بعضهم بالحديث كان مهمة صعبة ومعقدة في آن. لكني لا أنكر أن شهاداتهم كانت هي أساس هذا الكتاب.
سادس تلك التحديات، وقد واجهتني بعد الانتهاء من كتابة المادة، وهو القدرة أو النجاح في الموازنة بين ما يستحق النشر دون الإطالة، وما يستدعي الحذف دون التشويه، وقد بذلت الكثير من الجهد كي أحقق المعادلة الصحيحة.
أنهينا المكالمة الهاتفية، وانصرفت إلى الحاسوب بعد ان قررت أن أكتفي بنقل التحديات التي واجهت المؤلفة، دون أن أتناول محتويات الكتاب لسببين: الأول لكي لا أحرم القارئ متعة قراءة عذبة لكتاب دُوّن بأسلوب سلس، وحوى مادة غنية فجمع بين جمالية الشكل وغنى المضمون. والثاني لأني وجدت في لفت نظر القارئ إلى التحديات التي واجهت المؤلفة، قيمة لا تقل عن قيمة ما ورد في الكتاب، الذي جاءت مادته بأحداثها المتلاطمة شبيهة بأمواج محيط عاتية، لكن فوزية نجحت في الإبحار فوقها فأوصلت الشملان ومعه تاريخ البحرين سوية مع القارئ إلى بر أمان تظلله أمانة مؤلفته وصدق نضال من كتبت سيرته.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2589 - الأربعاء 07 أكتوبر 2009م الموافق 18 شوال 1430هـ