مازلت أذكر حين جلس شيخي يشرح لي الفارق بين الواقع والحقيقة والحق، كنت آنذاك في العشرينات من عمري، في مقتبل دراستي للماجستير، غير خبيرة بالمصطلح الأصولي ولا الفلسفي المجرد، مهاراتي التي أجيدها هي التحليل السياسي الواقعي دون أدنى وعي بمساحات المعنى وطبقات الوجود وتحولات الظاهر.
أنظر اليوم ورائي وأفهم بعض ما قيل لي آنذاك، وما زالت الدلالات تتجلى في مشاهدتي فأدرك ما التبس علي فهمه حينئذ.
في كتاب المفكر الفرنسي ريجيس دوبري جلست أقرأ، «حياة وموت الصورة» هو العنوان، فأعدت قراءة عبارات الفارق بين الواقع والحقيقة والحق، متجليا في الصور التي تخلقها الوسائط الحديثة فتشتت الوعي، وتخلق حالة من فوضى المعنى، وتصبح الصورة هي اللغة، لكنها لغة أضعف قدرة على التحاور وأكثر نزوعا للهيمنة على العقل والوجدان من الكلمة والحرف.
كنت قد قرأت الكتاب من قبل منذ أربعة أعوام بعد أن التقيته أول مرة في القاهرة فذهبت أبحث عن كتبه... لأراه عبر أفكاره أوضح.
لم يكن لقاؤنا الأول حول الصورة والمعنى، أو الوسائط والوجود، بل كان حول الحجاب! فالرجل كان مستشارا لرؤساء فرنسا واحدا بعد آخر، أتى من خلفية اليسار وعايش تشي جيفارا في أميركا اللاتينية، وهو من أبرز المفكرين الفرنسيين، وقد رأس اللجنة التي رفعت تقريرا بمنع الرموز الدينية في المدارس أيام أزمة الحجاب الأولى في فرنسا.
كان في القاهرة ليلتقي مجموعة من المنشغلين بالقضايا الفكرية وحوار الحضارات من المصريين، وتم ترتيب اللقاء فجلسنا في الفندق ونحن نشرف على النيل، وسألني وسألته، وتجادلنا حول الحجاب وفلسفته والجسد وتصوراته، والثقافة والحرية. ثم التقينا بعدها مرة في عمان في منتدى للحوار، ثم تقابلنا في زيارة إلى باريس وتبادلنا الأفكار على مائدة طعام، لا هو تزحزح من موقعه العلماني الفرنسي الفريد، ولا أنا تزحزحت من مكاني، لكنه صار أكثر وعيا بقضايا العرب بعد زيارة له منذ عامين أو يزيد للأرض المحتلة، وساعتها رأى ما وراء الصورة وأدرك أن التوجه هو تصفية القضية الفلسطينية بالتقادم وكتب ذلك في كتاب أحدث ضجة.
لماذا أقرأ هذه الأيام عن الصور وأثرها ورمزيتها وطقوسها وتغولها الشرس على المعنى والمكان؟ لأنني في القاهرة التي أعيش فيها وأعايشها أناضل كل يوم ضد الصور التي تجتاح المجال العام والمجال الخاص.
في المجال العام اكتسحت الصور الإعلانية الأفق البصري حتى سدت علينا الأفق الطبيعي، أينما ذهبت وحيثما توجهت تبرز الصورة لتتحداك، تخاطبك وتستميلك كي تشتري شيئا ما، من الطعام والشراب والمأكل والملبس إلى الشرعية السياسية التي تبحث في نظم الاستبداد عن مستهلك يشتريها... وتشتريه؛ تقتحمك وتفرض نفسها عليك إذا نظرت أمامك بل لو رفعت رأسك للسماء، تحاصرك وتنظر إليك من أعلى البنايات وتظل تغريك بأضوائها الساطعة ليلا وألوانها الوقحة نهارا.
اقتحمت الإعلانات بصورها ورموزها وأيقوناتها كل مفردات المجال البصري العام، من البنايات إلى أعمدة النور إلى الأرصفة إلى سيارات التاكسي بل وأجساد البشر بطبعها على الملابس... بل وغزت جملها الشهيرة الألسنة فصار الناس يستخدمونها بدلا من صياغة أمثالهم الشعبية.
أما في المجال الخاص فقد صرنا نتحرك في عالم من الشاشات، شاشة الهاتف، شاشة الكومبيوتر، شاشة التلفاز، يسمونها أحيانا نوافذ، لكنها في الحقيقة أسوار تحجب الواقع بخلق واقع افتراضي، وتحجب الحقيقة بتزييفها أو على الأقل إبقائها ناقصة ومهزوزة، وتحجب الحق في ضباب من النسبية والفردية.
حتى الآن أنا أكتب لكم عبر شاشة، صارت التكنولوجيا هي عصا سليمان التي نتكئ عليها حتى كدنا نموت وتموت فينا طاقة الابداع، أو ربما هي عصا موسى التي يمكن لو تعلمنا فك شفرتها وتحدي منطقها وترويضها ربما تلقف ما يأفكون بإعلام بديل وتكنولوجيا بديلة وسوق آخر أقل اجتياحا لإنسانيتنا بأيدلوجية ونهم الاستهلاك؟
في رمضان أغلقت التلفاز، وفي الشارع ألتفت للإعلانات التي تراهن على التسلل للاوعي فأحاربها بالوعي، وهو تحدٍّ منهك ومرهق للأعصاب، لكنني لم أنهزم بعد... وشاشة الهاتف ما زالت معركة قادمة.
تلك الشاشات حواجز، نستمرئ السرعة فلا نستثمر في التواصل الإنساني، ونكتفي بذبذبات الصوت فنتكاسل عن اللمس والشم ونستغني عن السير والنظر... حتى صارت الشاشات التي نعيش في عالمها من أهم أسباب السمنة كما تذكر بعض التقارير الصحية.
نعم، الشاشات تسهل التواصل مع المجالات والمساحات، وتطوي البعد، ويصبح العالم عند أطراف أصابعك كما يقولون، وتوفر الوقت، لكن العالم الذي يأتي عندك هذا عالم صاغ رموزه في الغالب آخرون، والوقت الذي يتم توفيره... تقتله شاشة أخرى.
تحت ركام الشاشات تختفي الحقيقة ويضيع منا الحق ويفلت من بين أصابعنا الواقع. والتحدي هو كيف تصبح الصور والوسائط أدوات لا عوائق، وكيف يفهم الإنسان مع أول درس في التعامل مع الشاشة أنها قد تقيد العقل وتقتل الروح وتدمر العلاقات المركزية بفيض من الضوضاء، والواقع الافتراضي، والعلاقات المتوهمة عن بعد ودون تحمل مسئولية أو عناء.
تطلب مني صديقتي التي تعيش في انجلترا أن أشتري كاميرا وأدخل على سكايب كي نتواصل، فقد اشتاقت لي كما أشتاق لها دوما، ويكرر الطلب الزملاء في جامعات غربية كي نتواصل في فيديو كونفرنس كما يسمونه، ويكون ردي للصديقة أنني أريد أن أحتفظ بشوقي حتى يفيض فأسافر لأزورها ونتحدث وجها لوجه، وأحذر طلابي من أن التواصل عبر الشاشة يظل ناقصا وأن هناك حِمّة لا يمكن تحصيلها إلى بالتشارك في المكان أقرب للطاقة التي تنتقل بالمواجهة المباشرة، وأن عليهم في التعامل مع الآلة أن يأخذوا حذرهم...
عالم من الصور وفيض من الرموز وفضاء واسع وشاشات كثيرة، ويبقى علينا أن نعايش اللحظة التكنولوجية... ونعاركها... ونحذر فتنها، ونتقي الله في إنسانيتنا... ونرعاها.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2587 - الإثنين 05 أكتوبر 2009م الموافق 16 شوال 1430هـ
صدقا أحبك
أحبك و إن لم أقابلك وجها لوجه - أحبك و إن عرفتك و تعرفت عليك انطلاقا من مواقفك الواردة إلي من هذه الشاشات -- يقولون "البعيد عن العين بعيد عن القلب " أقول أنا - كثيرون من تفصلني عنهم مسافات و أزمنة لكن قلبي يفيض حبا لهم ___مواقفك أستاذتي تدخلاتك و كان أول لقائي-الإفتراضي- بك من خلال قناة الرسالة عندما عبرت بمروءة و رجولة أمام الملأ عن معاني القوامة _______فحفظت اسمك و بحثت عنه على هذا العالم الافتراضي ___ أسأل الله ربي لك دائما دوام الصحة و يثبتك و يرزقك الإخلاص--تلميذتك المغربية--