وتكمن المفارقة في أن شريعتي الذي أعلن عن مطمحه في الانتقال بالإسلام (من ثقافة إلى ايديولوجيا) تسود كتاباته نزعة تفكير حرة، ترفض المجتمع المغلق، وتدعو إلى إصلاح الفكر الإسلامي، والانفتاح على مختلف الأديان والثقافات. وتحكي آثاره ذائقة فنان، وروح شاعر، وعقلية ناقد، ونزعة متمرد. ومثل هذه السمات في الشخصية يتعذر على الايديولوجيا الانسجام والتوافق معها. والمفروض أن مثقفا كشريعتي يدرك مثل هذا التهافت، ويعي التباين بين الشخصية الايديولوجية، ووعي المثقف والناقد، وأحاسيس الشاعر، والفنان، لكن موقفه ظل مضطربا قلقا، تستحثه مشاعرالفنان الرومانسي، وتوقد أحلامه تطلعات المناضل.
وتتضمن نصوص شريعتي هجاء لاذعا للغرب وما اجترحه عبر تاريخه الاستعماري في آسيا وإفريقيا والأميركيتين، على الرغم من أن مرجعيته في تفكيره ودراساته مستقاة من المعارف الغربية، كمن سبقه من الدارسين الذين تبرموا من الغرب وممارساته، في نفس الوقت الذي استلهموا معارفه ولغاته ورؤاه.
وفي الفترة ذاتها التي شغلت الجامعات والنخب الآراء الإحيائية لشريعتي، وتغلغلت أفكاره في الأوساط الشعبية، برز في إيران مفكر آخر، وهو سيد حسين نصر الذي يتحد مع شريعتي في غاياته الإحيائية وأيضا يدعو للعودة إلى الذات، ويرى أن أعظم خطايا عصرنا تتمثل في (تمرد الإنسان على الله... وانفصال العقل عن نور العقل الهادي... وتراجع الفضيلة). ويوجز رؤيته قائلا: «إن كنت مضطرا لتلخيص ما يسمى رؤيتي الفلسفية، فأقول: أنا من أتباع العقل الخالد، وكذلك الحكمة الخالدة، أي ذلك العقل السرمدي الذي كان دائما وسيظل إلى الأبد...».
ومثلما كان شريعتي رمزا لجيل من المستنيرين الدينيين، فإن نصر كذلك. غير أن شريعتي يفتقر إلى الخبرة المعمقة بالتراث ومسالكه، ويعوزه الاطلاع العلمي الشامل على المعارف التقليدية؛ لأنه لم يصب تعليما دينيا في الحوزات العلمية.
خلافا لحسين نصر الخبير المتمرس في الفلسفة والعرفان وطائفة من المعارف التقليدية، ذلك انه أصاب تعليما متميزا على يد علماء مشاهير، كالعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي وغيره. ولعل ذلك كان من دواعي تبادل الاتهامات بينهما، إذ يصف حسين نصر شريعتي بأنه (ماركسي غوغائي يحاول التغلغل في التيار الديني)، أما شريعتي فيصف نصر بأنه (مستنير رجعي يسكن برجا عاجيا). وبلغت الأزمة بين الاثنين أوجها حدود سنة 1970 لما استقال حسين نصر من عضوية هيئة حسينية الإرشاد، احتجاجا على محاضرة لشريعتي قارن فيها بين الإمام الحسين (ع) وجيفارا. واشتهر حسين نصر بمواقفه المناهضة للحداثة، وتنديده العنيف بها. وكتاباته عن (أزمة الحداثة... وعبثية التطور وسوء مغبته) بالتوكؤ على آراء المتصوف الفرنسي رينيه غنون.
وكان داريوش شايغان أحد زملاء حسين نصر، ممن جمعت بينهما الحلقة النقاشية للسيد محمد حسين الطباطبائي وهنري كوربان، وانخرطا معا في هموم فكرية مشتركة، فيما يتصل بالميراث الميتافيزيقي والآفاق المعنوية للتشيع، وإن كان شايغان قد عادل اطلاعه على الفلسفة الغربية باطلاع مماثل على المعتقدات الهندية والفلسفات المتوطنة في آسيا. وأثار كتابه (آسيا در برابر غرب = آسيا في مقابل الغرب) اهتماما بالغا، فقد ذهب فيه إلى (أن مسار الفكر الغربي كان باتجاه التقويض التدريجي لجملة معتقدات شكلت التراث المعنوي للحضارات الآسيوية). ويرتكز رأي شايغان هذا على التفاوت الانطولوجي بين الشرق (الإسلام، البوذية، الهندوسية) والغرب، فجوهر الفلسفة والعلم في الحضارات الشرقية يختلف جوهريا عن نظيره الغربي، ذلك أن نمط التفكير الفلسفي الغربي عقلاني، أما الفلسفة الشرقية فترتكز على المكاشفة والإيمان.
إلا أن شايغان قام بمراجعة نقدية لأفكاره في مرحلة لاحقة، واعترف بأنه تحسر على حضارات تقليدية كانت في طريقها إلى الأفول، في كتابه السابق (آسيا في مقابل الغرب). ودعا إلى التحرر من الرؤية الثنائية للحضارات الشرقية والغربية، والتخلص من النظر إليها بوصفها مختلفة متقابلة جغرافيا وثقافيا. لقد عاد شايغان بعد عقد من الزمان لنقد أفكاره الماضية في كتابه (آسيا في مقابل الغرب) في كتاب جديد صدر بالفرنسية سنة 1989 بعنوان (النفس المبتورة : هاجس الغرب في مجتمعاتنا).
وميزة شايغان أنه مفكر يدمج العقل بالروح، والذهن بالقلب، والمشاعر بالأفكار، والبرهان بالحكمة والشعر، ويثري كتاباته بمزيج من مفاهيم متنوعة، تختلف مواطنها، فشيء منها يعود إلى ديانات آسيوية، وشيء آخر إلى العرفان التصوف، فيما يعود شيء ثالث إلى تيارات الحداثة وما بعد الحداثة في الفكر الأوروبي، لكنه يصوغها في توليفة منسجمة متسقة، ويثريها دائما بتأويلات ونظرات حاذقة.
جداليات التفكير الديني بعد الثورة (1979 - 2005)
يمكن اعتبار انتصار الثورة وقيام الدولة الإسلامية اللحظة الحاسمة في مسار وتحولات التفكير الديني في إيران، فقد تغيرت الأولويات الفكرية، وتراجعت طائفة من المسائل التي ظلت لعشرات السنين عناوين ضجة في التفكير الديني، حين تصدرت مسائل غيرها، لم تكن قبل الثورة من الشواغل الفكرية، بل لم تتعاطَ معها أجيال من المفكرين والباحثين المهتمين بالدراسات الإسلامية. فجأة انبثقت هموم جديدة، وجرى تداول موضوعات خطفت الأضواء عاجلا، بينما انزوت الموضوعات الساخنة المعروفة قبل ذلك، فلم تعد قضية الهوية والخصوصيات المحلية والعلاقة بالآخر تحتل الصدارة في التفكير والكتابة، وإنما أضحت قضايا الدولة الدينية والدولة المدنية، والمجتمع الديني والمجتمع المدني، ومصدر مشروعية السلطة، وماهية وحقيقة الدين، وأشكال التدين، ومنشأ النزعة الدينية، وبواعث التدين، وتاريخية المعرفة الدينية، والتعددية الدينية، وجوهر وصدف الدين، والذاتي والعرضي في الدين، والدين وتطلعات الإنسان، أو ما الذي يترقبه الإنسان من الدين وما الذي يترقبه الدين من الإنسان، ومجالات الدين وحقوله وحدوده في الحياة البشرية، وعلاقة الدين بالايديولوجيا، والدين بالأخلاق، ولغة الدين، وهل هي لغة عرفية أم بيانية أم رمزية، وإمكانية فهم الدين من دون الاعتقاد به، والتجربة الدينية وآفاقها وتجلياتها وأبعادها، وجداليات الدين والعلم، والدين والعقل... وغير ذلك.
وسادت عناوين بديلة، وطغى سجال مختلف في الحياة الثقافية، وظهر مفكرون يتسلحون بمناهج تستند إلى فلسفة العلم، والهرمنيوطيقا وعلوم التأويل الراهنة، ولا يخشون استعارة مفهومات اللاهوت الغربي الحديث، وتطبيقها في دراسة النص والتراث وأنماط الخبرة الدينية. وتعرضت المعارف التقليدية إلى مراجعات من منظور نقدي تحليلي، يغور إلى الجذور، ويبحث عن الخلفيات، ويهتم باكتشاف الأنساق المعرفية، وتفكيك العناصر والأسس وغربلتها. فمثلا في الحقل الفقهي لم تقتصر الدعوة على تحديث مناهج الاجتهاد، وتوظيف مقاصد الشريعة في الاستنباط، وإنما ولدت محاولات لبناء علم بموازاة أصول الفقه ومقاصد الشريعة، اصطلح عليه بعض الباحثين فلسفة الفقه. يطمح هذا العلم لبيان الهوية التاريخية والاجتماعية للفقه، واكتشاف العناصر الراقدة خلف عملية الاستنباط، من مسلمات وفرضيات وقبليات ورؤى كونية ومبانٍ، تتنوع بتنوع تجارب الاستنباط، وطبيعة الفضاء المعرفي الذي تتمخض داخله تلك التجارب. وتسعى فلسفة الفقه لتفكيك نسيج الفقه، والكشف عن طبيعة المعارف الخفية المستترة في بنيته، وتهتم بتشخيص ما يطبع المعرفة الفقهية، وما تتلون به من رؤية الفقيه الكونية وثقافته، ومحيطه الخاص، أي أنها تغامر باجتراح أسئلة كانت غائبة من قبل.
وتبلور في دراسة اللاهوت اتجاه يدعو إلى تجاوز علم الكلام الكلاسيكي، وصياغة علم كلام جديد، يغلب عليه الطابع الابستمولوجي (المعرفي) التبييني، ويتحرر من النزعة الدفاعية، وينفتح على الجغرافيا الراهنة للمعرفة البشرية، ويتعاطى مع نتائجها بلا وجل، ويعيد رسم الهندسة المعرفية للمسائل الكلامية بنحو مغاير لما مضى، ويستوعب طائفة من الموضوعات الجديدة في إطار هذه الهندسة المعرفية، ويرتكز على سائر معطيات ومناهج العلوم الإنسانية الحديثة، من أجل توظيفها في البحث والدراسة، ويتمرد على أشكال القياس الأرسطي الموروثة.
إلا أن الكثير من الإنتاج الفكري الراهن في إيران يطبعه المنظور النقدي التفكيكي التحليلي، ولم يتسلح بمنظور نقدي تركيبي. إنه يبرع في عمليات التقويض والهدم، من دون أن ينتقل إلى بناء رؤية أو مرتكزات منهاجية لمواقف معرفية أخرى. ولعل ما يبرر ذلك له ان الفكر الحديث بطبيعته فكر نقدي، لا يكف أبدا عن التساؤل، ويهمه إثارة الاستفهامات قبل البحث عن الأجوبة، والرؤية دائما تنبثق في فضاء النقد والتساؤل.
إقرأ أيضا لـ "عبدالجبار الرفاعي"العدد 2583 - الخميس 01 أكتوبر 2009م الموافق 12 شوال 1430هـ