ما شهدته مدينة الرياض في منتصف الليل من بعد يوم الاثنين 12/5/2003م من اعتداءات آثمة لم تكن حدثا عاديا شبيها بالحوادث الإرهابية التي سبقتها في المدينة نفسها أو مدن أخرى من السعودية في الأعوام السابقة، فهذه المرة وحيث جاءت بهذه الضخامة من الخراب والتدمير وهذا العدد الهائل من القتلى والجرحى الذين سقطوا نتيجة هذا التفجير الإجرامي ستكون تداعياتها وآثارها كبيرة وممتدة لفترة طويلة من الزمن، فلقد فوجئ الرأي العام السعودي وأصيب بصدمة شديدة لهول المصيبة وفداحة الخسائر، وخصوصا في صفوف المواطنين السعوديين والعرب المقيمين الأبرياء التي فاقت في أعدادها الضحايا الأجانب وتجاوزتها بكثير، ما يعني عمق الشرخ ـ وهذه أولى النتائج والانعكاسات لهذا الحدث المروع ـ
ومدى الانفصال الذي سينشأ بين التيار الديني السلفي المتشدد الذي تبنى هذه الجرائم وما قبلها أيضا وبين باقي شرائح المجتمع الأخرى، والأكثر من ذلك خسارة هذه الفئة الاجتماعية في الفترة المقبلة للكثير من امتيازاتها ومكتسباتها السياسية منها والاجتماعية، بل وحتى الاقتصادية التي كانت تحوزها بما يفوق عن التيارات الثانية الاجتماعية بفضل سخاء الدولة وعطائها لها، وعلى رغم إدانة الكثير من رموز هذا التيار لهذه الأعمال الإجرامية وتصريحاتها بالرفض والتنديد بها، فإن ذلك لم يكن كافيا البتة لتبرئة هذا المد المتطرف من تحمل مسئولية هذا الإرهاب الجديد في شكله والغريب على مجتمعنا.
الفهم الخاطئ... جذر المشكلة
يتسم المنهج الفكري للخط السلفي بشكل عام بالتعصب للرأي والتشدد في جميع المفاهيم الثقافية الدينية وأثر ذلك في الأحكام والتشريعات المستنبطة من قبل علمائهم ومجتهديهم. والظاهرة الأخطر التي برزت في هذا التوجه الثقافي في الأمة في العقود الأخيرة هو اتجاهه نحو تكريس روح العداء والكراهية بين تلاميذه واتباعه لأصحاب الرأي الآخر الذي ليس بالضرورة أن يكون مضادا أو معاديا، بل يكفي ألا يكون متفقا معهم تماما في الرؤية والفكرة. وقد أخذ هذا التطرف والبغض للفكر الآخر أشكالا عدة وأطرا مختلفة وتطور وتوسّع حتى انتشرت حالة العنف ونفسية الحقد فيما بين الأجنحة المختلفة لأبناء هذا التيار.
في البداية ظهرت على السطح فتوى تكفير المذاهب الإسلامية الأخرى على مختلف مشاربها وانتماءاتها، ثم ازدادت الفتاوى تطرفا عند بعض البارزين من مشايخ السلف إذ صدرت منهم إباحة دماء أتباع بعض الفرق الدينية كالشيعة والإسماعيلية والزيدية والأباظية وغيرهم وإباحة أعراضهم وأموالهم فضلا عن حرمة مصادقتهم ومعاشرتهم بل حتى مجرد إفشاء السلام وإلقاء التحية عليهم وكذلك وجوب التضييق عليهم وإيذائهم وإقصائهم قدر الإمكان عن مناصبهم الوظيفية وحرمانهم من مجالات العمل والخدمة في دوائر الدولة ومؤسساتها، وكثير من أمثال هذه الاستفتاءات اللاإنسانية.
ثم تطور مفهوم التكفير وأخذ أقصى مدى له عند الكثير من الجماعات السلفية ليشمل المجتمع بأسره، فباعتباره بعيدا عن تجسيد نظرية الحاكمية الإلهية وتنفيذها في حياته العملية وعدم التزام عموم الناس بما أنزل الله! فهو كافر بالضرورة! وبالبديهية هذا يشمل جميع المؤسسات المدنية بما فيها مؤسسة الحكم والسلطة حتى لو كانت تلتزم ببعض تعاليم الإسلام وتشريعاته في الجوانب الشخصية من حياة الفرد.
وكان طبيعيا ونتيجة لتراكم العنف النفسي المنطلق من ثقافة التطرف أن تسود هذه الحالة المرضية ما بين الأفراد والمحسوبين على هذا التوجه أنفسهم، إذ شهدنا أحدهم قائد إحدى المجموعات ـ لا تتعدى العشرين نفرا ـ يُسمي نفسه بـ (أمير الجماعة) يتجرأ بإصدار فتوى بالتكفير ومن ثم جواز التصفية والقتل بحق زعيم جماعة أخرى، أو مثل تكفير بعض صغار العلماء لأساتذتهم ومن هم أكثر منهم علما لمجرد الاختلاف معهم، ومثل هذه الظواهر العنيفة كثيرة ومتفشية ـ وللأسف الشديد ـ في معظم الأوساط السلفية في بلداننا العربية والإسلامية.
هذا النهج في البناء وصنع الشخصية على الصعيد العقائدي الذي يتلقاه الفرد بشكل يومي المشحون بكره الآخر وازدرائه هو الذي يصنع الأرضية ويخلق الاستعداد النفسي لقتل وزهق أرواح الكثيرين من الأبرياء المسلمين ـ المحكوم سلفا بعدم إسلامهم ـ فكيف بغيرهم؟ فيما لو تطلب الأمر التضحية بهم في سبيل تحقيق وإنجاز بعض الأهداف الخبيثة المنبثقة من تلك المفاهيم المريضة. تماما كما حصل في جرائم تفجيرات الرياض الأخيرة.
الواقع الأمني، دور آخر...
من نتائج هذه الأعمال الإرهابية وانعكاساتها الثانية هي في طبيعة وشكل العلاقة المستقبلية التي ستنشأ على أسس وتصورات جديدة عند الجهاز الأمني الحاكم المتمثل في وزارة الداخلية وتفريعاتها الأمنية المختلفة في طريقة تعاملها وتعاطيها مع من ينضوي تحت لواء هذا الفكر المتشدد وليس فقط من يمارسه ويلتزم به في حياته العملية.
كان التعاطي الأمني فيما سبق يتصف بالتغاضي إلى حد ما وباللين والهدوء في معالجة ظاهرة التطرف الديني بل مع من ثبتت إدانتهم وتورطهم في المشاركة وفي دعم أعمال إرهابية سابقة وكان الغرض من ذلك عدم الاصطدام المباشر مع أبناء هذا التيار السلفي وما ينجم عنه من اضطرابات وتوترات اجتماعية محتملة قد تتأثر بها البلاد سلبيا وتنزلق في متاهة الصراعات والحروب الداخلية وذلك لما له من قوة وامتداد شعبيين ولاسيما في نجد، منطقة الحكم والسلطة كما لا يخفى. حتى قيل إن قوتهم ونفوذهم امتد إلى داخل المؤسسة الأمنية نفسها، ما انعكس على فرض واستخدام سياسة المهادنة التي اتخذتها الأخيرة أمام الكثير من المواقف الصادرة منهم والتي كانت توصف بالتزمت والعدائية لأشخاص المجتمع المدني ومراكزه. وكذلك غض النظر عن الكثير من الأنشطة والممارسات الظاهرة للعيان والتي تصب كلها لصالح تغذية وإذكاء هذه الحال المتشددة من قبيل وجود المئات من أئمة المساجد وخطباء الجمعة وحضورهم في الساحة بكامل من الفسح والحرية وهم يمارسون هذا الدور في تكريس فكر العنف وتعميقه تجاه المجتمع والحكومة في آن واحد. ومن قبيل جهود عناصر هذا التيار ومساعيها المعلنة والمكشوفة في توفير الإمكانات المادية وجمع الأموال اللازمة لدعم ومساندة زملائهم وأقرانهم من التوجه نفسه في مختلف المناطق في العالم كما كان الحال مع تنظيم «القاعدة» في أفغانستان.
كما ان الدولة ـ من جهة أخرى ـ اعتمدت كثيرا على الهيئة الدينية الرسمية في سبيل ضبط الشارع الديني السلفي والحد من غلوائه وتزمته الفكريين وامتصاص ردود الفعل المتوقعة عنده التي قد تكون ناقمة ومتطرفة إزاء مواقف الحكومة وقراراتها بالنسبة إلى الكثير من القضايا الساخنة المرتبطة بمشكلات العالم الإسلامي وأهمها أزمة الحرب الأميركية على أفغانستان وما تلاها من إسقاط حكم طالبان وضرب حركة «القاعدة» وإنهاء وجودها في ذلك البلد.
لكن الذي اتضح وتبين ومنذ فترة ليست بالقصيرة لكنه ازداد وضوحا بعد الحوادث الإجرامية الأخيرة أن الطريقة والأسلوب الذي اتخذ أمنيا تجاه الحال السلفية المتصاعدة في العنف والتطرف لم يأتِ بثماره إن لم تذهب إلى حد القول إنه قدم إليهم الفرصة والمجال للتوسع والانتشار الأكثر وخصوصا بالنظر إلى مصادر التموين والإمداد الماليين الهائلة التي يتمتع بها هذا التيار ويستفيد منها.
من جانب آخر، نجد أن التيار السلفي عموما قد تجاوز المؤسسة الدينية الرسمية ولم يعد يوليها الثقة والاحترام اللازمين بعد أن وجد أنها لم تعد تلبي الحد الأدنى من طموحاته وآماله وانها أصبحت أداة طيّعة بيد السلطة تستخدمها متى ما شاءت في تمرير سياساتها وتسويتها ـ كما يقول الكثيرون من أتباع السلف في بلادنا ويدعونه ـ وبناء على ذلك برزت الكثير من القيادات الميدانية الأكثر حيوية وشبابية التي وضعت نفسها بديلا للشخصيات القديمة بما فيها الرسمية وهي بطبيعة الحال الأشد في فكر التزمت والعنف. وقد وصل وبلغ التطرف عند بعضهم ـ ثلاثة من مشايخ الجيل الجديد ـ حد الجرأة إلى إصدار فتوى لأتباعهم تقضي بحرمة تقديم أية معلومة تفيد السلطات الأمنية عن الإرهابيين التسعة عشر الذين اختفوا قبل أسبوع من التفجيرات الأخيرة والذين أدين الكثير منهم بالمشاركة الفعلية فيها.
مواجهة العنف
مسئولية جماعية...
مهما كان ما قامت به الأجهزة الأمنية المسئولة في الدولة وتبذله من جهود مضنية من أجل حفظ الهدوء والاستقرار ومهما بلغت الإمكانات المادية التي تملكها لتحقيق هذا الهدف، فهي لا تكفي لوحدها لإنجازه ومن ثم منع المخاطر التي تواجهها بلادنا في داخلها وبين ظهرانينا، ما لم تتظافر جميع الجهود المنبثقة من مختلف مؤسسات الدولة وتشترك سوية في الحرب ضد هذه الثقافة والممارسات ذات النزعة الإرهابية ومن ثم القضاء عليها أو تحجيمها على الأقل.
تستطيع وسائل الإعلام ـ مثلا ـ المرئية منها والمسموعة والمقروءة من خلال تناولها لهذا الموضوع في جو من الحرية والاستقلالية التامة ومعالجته بكل صراحة وموضوعية وشفافية أن تسهم إلى حد كبير في هذه المعركة ضد الإرهاب ونزع جذوره وأسبابه.
وكذلك هنالك الدور الكبير الذي يمكن أن تقوم به مراكز الإشعاع الثقافي والتعليمي والتربوي من مدارس ومعاهد وجامعات ومنتديات أدبية ومجالس ثقافية أهلية في توعية هذا الجيل وتبصيره بحقيقة دينه وإبراز قيم اللين والتسامح وضرورة نبذ العنف والكراهية وحرمتها الشرعية المؤكدة ولزوم الانتباه واليقظة أمام النظريات التي تحمل في ظاهرها الإصلاح وهي تبطن الهدم والتدمير.
وأخيرا بيئة الأسرة والعائلة ودورها في تنشئة الفرد منذ طفولته بعيدا عن أجواء التزمت الديني بل وخلق الدافع الذاتي عنده لمحاربته وكشف ضلاله وزيفه
العدد 258 - الأربعاء 21 مايو 2003م الموافق 19 ربيع الاول 1424هـ