العدد 258 - الأربعاء 21 مايو 2003م الموافق 19 ربيع الاول 1424هـ

المناخات التي انهمرت على رؤوسنا

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

مطلع الستينات... ظل المكان متشبثا بالحدود القصوى من براءته... وظل الناس متشبثين أيضا باللاحدود من البراءة... كانت هنالك ثوابت لم تستطع زحزحتها آلات الهدم القابضة على موهبة الخراب... ذلك لا يعني ان الخراب لم يكن متشكلا وقتها... غير ان الجهر بسريته يتطلب وقائع وتجارب مسبقة ينتجها بشر الوسط المكاني... كان مجرد الهمس بتلك النية يعني اجتياحا وردما لمصادره والداعين إليه.

أول مشهد تأملي لي وماأزال أحفظ تفاصيله... مجموعة من الشرطة الإنجليزية والهندية كانت تتولى تنظيم الطرق والأزقة التي ستمر عبرها التظاهرة... لكن تأمل الموقف يومها يفتقد الى التوغل... الى العمق... ربما الى مدى الأفق الذي كان عليه الوعي وقتها... وامتداد الأسطورة كي ألغي «جريرة» الإعجاب برجال أمن يحرسون مظاهرة لا تعد بسفلتة الطرقات بقدر ما تعد بنهش ونبش الاسفلت بأظفارها الطويلة والمتسخة كي تنطلق ينابيع الحياة من دون أن نعي أن الاسفلت «مشنقة للينابيع»... حبل من القار يكمن في زقاق... يصطاد شجرة أو نشيدا أو ربما مواسم حالمة بشهوة البرق وفكرة الأبد!.

كانوا إخوة

لكنهم تركوا أخاهم صاعدا في الجب

والذئب الغريب يظل أحجية

ستحرسهم من الفوضى!!!.

الطريق إلى المدرسة محفوفة بالنعاس... محفوفة بسليقة النسيان وتأجيل الفرص... لم نك نملك «دمى» في الزمن الذي تخلو إمكاناته من «الصفر»... كانت الحجارة والسعف المحتضر ألعابا نشكلها كيفما نشاء... نبتدع منها «خيولنا الوهمية»... أما الحجارة «فرصاصنا الحتمي»... الحتمي الجميل... كنا نغتال في ذاكرتنا كل البشر الذين لم يمنحونا فرصة أو تبريرا يتيما كيما نحبهم كما نريد لا كما يريدون.

الطريق الى المدرسة جرح غائر بين حقول البراءة ومروج المعرفة... نفترش الأرض... نصغي إلى رجل يدعي أنه يملك سحرا أن يمنحنا ما ندافع به عن فكرة التمايز بيننا وبين (عجول) جارنا «عبدالله الماضي»... إذ هناك تعلف العجول ما يلقى إليها ونحن هنا نعلف «الحروف والأرقام»... ندخل برقاب طويلة أو طبيعية ونخرج برقاب ليست لنا... رقاب طويلة من طول تحديقنا في اللوح الأسود الذي سنخرب ليله ببياض آسر ولا نهائي!.

الطريق إلى المدرسة غموض يتخفى في شكل سياج خلف صحراء مفتوحة على «جنة المعرفة»... الطريق إلى المدرسة ثراء من نوع آخر... ثراء الجرأة على النهوض مبكرا وبملابس المدرسة... الطريق على المدرسة محفوفة بالوضوح، بفاكهة البداية... الطريق إلى المدرسة محفوفة بالأشجار، بالقدر، بالحرية المؤجلة، بأصوات العذاب المعرفي المفتوح على شرفة الجغرافيا ومقصلة الوقت...

فماذا يستطيع القلب

أن يحوي من القبل السحيقة؟

كل شيء ذاهب فيما مضى...

لأمي رائحة الصوغ الأول لهذا العالم، إذ كل شيء يدل عليّ... على توغلنا في مسارب الحياة، نرتدي العراء ريثما تجف أسمالنا على حبل الغسيل، كثيرا ما كنت أراقب الثوب وهو يجف تحت شمس الجزيرة الحارقة، هل راقب أحدكم ثوبه وهو يجف؟.

لأمي نكهة الوصول إلى قمة جبل، حيث تكون في حيز تتوهم من خلاله أن الجبل هو قامتك الطبيعية ترى من خلاله الكائنات السفلية وقد مسخت إلى حشرات أو ميكروبات لا ترى بالعين المجردة، لأمي طعم المطر الذي انهمر ذات مساء ونحن «محشورين» في غرفة لا سقف لها، يومها افتقدنا سقفين... الأب... وسقف البيت الذي لم يتح الموت فرصة لأبي كي ينجز وعده وليهزم المناخات التي انهمرت على رؤوسنا كطيور الأبابيل

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 258 - الأربعاء 21 مايو 2003م الموافق 19 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً