أيام قليلة تفصل بين كلام المستشار الألماني جيرهارد شرودر عن جورج بوش الأب وعن جورج بوش الابن. أمام ثمانمئة مدعو في برلين قال شرودر: لا يسعني إلا أن أشيد بالإنجازات التاريخية التي حققها الرئيس الأميركي جورج بوش. صفق الحضور لكن المستشار الألماني كان يتحدث عن الرئيس الأميركي رقم 41 وليس رقم 43 أي عن الرئيس الأسبق جورج بوش الأب ودوره في استعادة ألمانيا وحدتها في العام 1990. وقبل أن يغادر شرودر ماليزيا يوم الاثنين الماضي ضمن جولة آسيوية تشمل أيضا سنغافورة وإندونيسيا وفيتنام، ألقى محاضرة تحمل عنوان (فرص الدبلوماسية في مواجهة الإرهاب) تضمنت انتقادات لسياسة الرئيس الأميركي الحالي جورج دبليو بوش. وقال شرودر إن الإرهاب لا ينبغي أن يكون وسيلة لشن الحرب. ويرى محللون هذا الموقف إشارة مبطنة إلى حرب العراق التي عارضتها ألمانيا ورفضت تأييدها والمشاركة بها ما نتج عن ذلك توتر في العلاقات بين برلين وواشنطن.
انتهت الحرب ويعمل الألمان في حصر الخسائر وتحسب نوع العقوبات التي ستفرضها واشنطن على برلين التي كانت قبل الأزمة العراقية أهم حليف لها في أوروبا بعد بريطانيا أما اليوم فإن بولندا العضو الجديد في حلف شمال الأطلسي أقرب إلى الأميركيين من ألمانيا. منذ وقت تتساءل وسائل الإعلام الألمانية لماذا لا يرفع شرودر سماعة الهاتف ويطلب الرئيس بوش على الأقل لتقديم التهاني بالنصر على العراق؟ أجاب شرودر على هذا الاستفسار بالقول إنه ليس هناك ما يدعو إلى إجراء اتصال هاتفي وإذا كان الغرض تأكيد العلاقات الألمانية الأميركية فإنها جيدة لأنها لا تتأثر باختلاف وجهات النظر. ويرى المراقبون في برلين أن شرودر يتجنب الظهور كمذنب لأنه عارض سياسة بوش تجاه العراق ويتصرف كأن شيئا لم يكن أما مصادر البيت الأبيض فإنها تؤكد أن بوش ما زال حاقدا على شرودر وتدعم ذلك تصريحات مستشارة البيت الأبيض كونداليزا رايس للأمن القومي المعادية لفرنسا وألمانيا.
في حين تعتبر كلمة بغداد كلمة السر في حصول توتر في العلاقات بين برلين وواشنطن، فإن كلمة بغداد نفسها أصبحت مفتاح انفراج هذه العلاقات وخصوصا أن الحركة الدبلوماسية عادت إلى دورها السابق بين برلين وواشنطن على رغم فقدان الود بين شرودر وبوش. فقد أوفدت وزارة الخارجية الأميركية في الأسبوع الماضي مبعوثا خاصا يدعى كيم هولمز إلى برلين ليطلع المسئولين الألمان على تفاصيل مشروع القرار الذي ستطرحه واشنطن على مجلس الأمن الدولي للموافقة عليه ويدعو إلى إلغاء العقوبات المفروضة على العراق منذ العام 1991. قبل وصول هولمز عبرت برلين عن استعدادها للتصويت في نادي الكبار على هذا القرار من دون تحفظات ما دفع المراقبون إلى التنبه إلى أن برلين لا تريد تفويت الفرصة المتاحة لعودة الود المفقود للعلاقات مع القوة العظمى وأن معارضة القرار والسير في فلك روسيا وفرنسا اللتين تتمتعان بحق النقض (فيتو) في مجلس الأمن الدولي وتشترطان أن توافق الولايات المتحدة أولا على عودة المفتشين الدوليين إلى العراق وإعداد تقرير بشأن أسلحة الدمار الشامل المزعومة عملا بقرار مجلس الأمن رقم 1441.
يذكر أن الولايات المتحدة قامت بشن حربها على العراق بحجة أنه يملك أسلحة الدمار الشامل وأنه يدعم تنظيم (القاعدة) لكن لم يثبت حتى اليوم صحة أي من هذين الاتهامين. تقول مصادر حكومية في العاصمة الألمانية إن برلين تجد أن مصلحتها تقتضي الموافقة على القرار الأميركي وترى في الاتصالات الدبلوماسية المكثفة في الوقت الراهن علامة على اهتمام الحكومتين بعودة الوئام لعلاقاتهما وقرب نهاية النزاع بشأن حرب العراق. غير أن موافقة ألمانيا على قرار يلغي العقوبات سينسف المحور الثلاثي الذي نشأ خلال الأزمة العراقية وجمع ألمانيا وفرنسا وروسيا في معارضة الحرب، في مواجهة الولايات المتحدة وبريطانيا. في الولايات المتحدة طرف يرغب في معاقبة ألمانيا على موقفها المعارض للحرب ويتمثل في صقور واشنطن الذين يحبذون نقل القواعد العسكرية الأميركية من ألمانيا إلى بولندا والتشيك، وهناك طرف يتمثل بوزير الخارجية كولن باول الذي يريد فتح صفحة جديدة للعلاقات مع برلين ونصب عينيه إشراك ألمانيا في تعمير العراق وانتشار جنود ألمان يعملون في فرض الاستقرار في هذا البلد العربي.
يقول الأميركيون إن نقل جنودهم من ألمانيا إلى دول كانت محسوبة سابقا على المعسكر الاشتراكي ليس عقابا لألمانيا وإنما خشية ظهور عراقيل في المستقبل إذا أرادت الولايات المتحدة استخدام قواعدها في ألمانيا في حرب مماثلة للحرب ضد أفغانستان والعراق وإن القوة العظمى تريد أن تكون حرة في استخدام قواعدها، لكن هذه نصف الحقيقة. وقام حرس الحدود الألمان بحراسة القواعد العسكرية الأميركية في المناطق الألمانية حين خلت تقريبا من الجنود الذين توجهوا إلى منطقة الخليج. وساهمت نهاية الحرب الباردة بين الشرق والغرب في خفض عدد الجنود الأميركيين في ألمانيا فحين كان عددهم في العام 1980 نحو 300 ألف جندي فإن عددهم اليوم لا يزيد عن 70 ألف جندي. لم يكن جنود الولايات المتحدة يلقون محبة من قبل الألمان فقد ساهمت حرب فيتنام في سوء سمعة الجنود الأميركيين كما كانت الصحف الألمانية تمتلئ بأخبار تتحدث عن تعاطيهم المخدرات والكحول والاعتداء على فتيات ألمانيات وكانت الصحف تكتب أن هؤلاء في بلدنا لحمايتنا وليس لإشاعة الخوف في نفوسنا. كما ظهرت موجة عنصرية ضد الجنود الملونين إذ كانوا يحرمون من دخول المراقص وحين ظهرت حركة السلام الألمانية ولاحت احتمالات وقوع حرب الخليج العام 1991 انتشر شعار على الصعيد الألماني الشعبي يدعو الأميركيين إلى العودة إلى ديارهم. ومع ظهور الأزمة العراقية تحطمت هذه العلاقة ولم يعد غالبية الألمان ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها البلد الديمقراطي المثالي وبسبب الحرب تعرضت العلاقات الألمانية الأميركية لأكبر شرخ في تاريخها.
يريد شرودر أن تصبح هذه المرحلة في حكم الماضي ويتعين عليه تقديم تضحيات. لم تعد برلين تصر على دور رئيسي للأمم المتحدة في وضع نظام جديد في العراق وأصبحت مستعدة لقبول الغزاة كمؤتمنين على العراق والإشراف على إدارة أموره. وحين يصل كولن باول إلى برلين يوم الجمعة المقبل تكون برلين قد استعدت تماما للعمل في طاعة القوة العظمى. في اليوم نفسه يعود المستشار الألماني من آسيا للاحتفاء بالصديق الأميركي باول إذ يأمل أن يلعب الأخير دورا في إعادة العلاقات بين برلين وواشنطن إلى سابق عهدها.
التنازل الألماني تم على مراحل ومن خلال القنوات الدبلوماسية. فقد زار وزير الدفاع الألماني بيتر شتروك من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم واشنطن قبل أسبوع إذ اجتمع مع المسئول الأميركي الذي يهابه الألمان على الأكثر، وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وهو من أصل ألماني. وراء الكواليس يجري الحديث عن قضية كانت طويلا محرمة: إرسال جنود ألمان إلى العراق في إطار مهمة حفظ السلام يقوم بها حلف شمال الأطلسي. شكر رامسفيلد ألمانيا على جهودها في أفغانستان ونوه بأن القوة العظمى تنتظر أن تقوم ألمانيا بمساهمة مماثلة في العراق. تستعد ألمانيا لمرحلة ما بعد الحرب وقال أحد مستشاري شرودر: رفضنا مشاركة القوات المسلحة الألمانية بالحرب والحديث عن المساهمة في تحقيق الاستقرار شيء آخر.
وتطالب المعارضة الألمانية المستشار شرودر أن يتجاوب مع الأميركيين. خلال الأسبوع الجاري سيطلب الأمين العام للناتو جورج روبرتسون من الدول الأعضاء الكشف عن إمكاناتهم لدعم مهمة حفظ السلام في العراق وتؤيد ألمانيا حلول الناتو مكان بولندا في الانتشار في شمال العراق ويعتقد خبراء عسكريون ألمان بأن الحلف العسكري الغربي مستعد من الناحية العسكرية للتحرك باتجاه العراق بانتظار قرار سياسي. في الخريف ستخفض ألمانيا عدد جنودها العاملين في أفغانستان والبالغ عددهم حاليا 2500 جندي ليجري إعداد قوة تتجه إلى بغداد
العدد 257 - الثلثاء 20 مايو 2003م الموافق 18 ربيع الاول 1424هـ