من المقرر جواز الطعن دستوريا في أي قانون أو نص أو لائحة أو قرار متى توافرت بشأنها الأسباب الآتية:
أولا: إذا كان هذا القانون أو اللائحة (أو نص في القانون) مخالفا لقاعدة دستورية.
ثانيا: إذا صدر هذا القانون أو اللائحة عن جهة غير مخولة قانونا.
ثالثا: إذا لم تُتبع القواعد الإجرائية المقررة في تشريع القوانين أو النشر.
رابعا: إذا كانت هناك قواعد موضوعية لقانون صدر حديثا تتعارض بعض نصوصه مع قواعد موضوعية لقانون سابق.
ومن المقرر أيضا أنه متى صدر حكم بعدم دستورية قانون أو نص في قانون أو لائحة يمتنع تطبيق النص أو اللائحة المقضي بعدم دستوريتها.
وفي شأن السبب الرابع سابق الذكر (ونعني به التعارض بين النصوص) نلفت النظر إلى أنه من الخطأ القول: «ان القانون اللاحق (أي الجديد) يَجُُبُّ (أو يُلغي) القانون السابق عليه». ذلك لأن القانون الجديد لا يُلغي القانون السابق بشكل تلقائي إلاّ إذا صرح القانون الجديد بذلك. مثال ذلك: نجد القانون المدني رقم (19) لسنة 2001 - باعتباره القانون العام - قد نص صراحة في الديباجة على إلغاء قانون العقود لسنة 1969، وقانون المخالفات المدنية لسنة 1970، وقانون ملكية الطبقات والشقق لسنة 1987. لهذا اعتبرت هذه القوانين ملغية بحكم القانون من تاريخ صدور القانون الجديد (القانون المدني) وذلك بناء على رغبة المشرِّع على نحو ما تقدم. في حين نرى أن هذا القانون (أي القانون المدني) لم ينص على إلغاء قانون الإيجار للعام 1955 في شأن العقارات المبنية في منطقتي المنامة والمحرق؛ ما ترتب على ذلك بقاء هذا القانون (باعتباره قانونا خاصا) قائما رغم صدور القانون المدني وتطبيقه في العقارات الواقعة خارج منطقتي المنامة والمحرق.
وعليه لا يجوز القول ان القانون اللاحق يُلغي القانون السابق بشكل تلقائي، إلاّ إذا صرح القانون اللاحق بإلغاء ما سبقه، أو أن يُصرح على الأقل «بإلغاء ما يتعارض مع أحكامه» كما فعل قانون المرافعات المدنية والتجارية الصادر بالمرسوم بقانون رقم (12) 1971 إذ نص صراحة على ذلك. وإذا ما تأملنا جيدا إلى المرسوم بقانون رقم (19) لسنة 2006 بشأن تنظيم سوق العمل محل البحث نجده لم ينص على إلغاء قانون العمل في القطاع الأهلي، إنما ألغى فقط الباب الثاني منه في شأن تنظيم عمل الأجانب. ما يعني ذلك أن باقي النصوص في قانون العمل لم يمسها الإلغاء وتظل واجبة التطبيق.
فإذا كان الأمر ذلك، وكان قانون تنظيم سوق العمل المعني في بحثنا هذا قد تبنى أحكاما متصلة ومرتبطة ببعض أحكام قانون العمل في القطاع الأهلي التي لم يمسها الإلغاء، فقد وجب أن لا تكون تلك الأحكام المتصلة والمترابطة متناقضة فيما بينها وإلاّ تصبح محلا للطعن دستوريا أيا يكن عدد تلك النصوص أو حجمها. وهذا ما سنقف عليه تباعا... ولكن قبل ذلك لا بد من الوقوف على الحقائق التالية:
فمن المعروف أن عقود العمل الخاضعة لأحكام قانون العمل في القطاع الأهلي للعام 1976 وتعديلاته تتألف من نوعين لا ثلاث لهما: وهي عقود العمل المحددة المدة، وعقود العمل غير المحددة المدة، (مع عدم الاعتبار بالعقود الأبدية فهي مرفوضة وغير جائزة قانونا. وعدم الاعتبار أيضا بالعقود العرضية المؤقتة، لأنها لا تخضع لأحكام قانون العمل استنادا لنص المادة الثانية من هذا القانون). وعليه لا يعترف قانون العمل إلاّ بنوعين من العقود هما: عقد العمل الفردي المحدد المدة، وعقد العمل الفردي غير المحدد المدة.
ومن المقرر قانونا جواز إنهاء عقود العمل غير المحددة المدة بإرادة طرفي العقد (صاحب العمل والعامل) أو بإرادة أحدهما، استنادا لنص المادة رقم (107) من قانون العمل، حيث تنص «إذا كان العقد غير محدد المدة جاز لكل من الطرفين إنهاؤه بعد إخطار الطرف الآخر كتابة قبل الإنهاء بثلاثين يوما...». وبشرط «أن يكون الإنهاء بمبرر قانوني» وإلاّ اعتبر الذي أنهاه متعسفا في استعمال حقه عملا بنص المادة (108) من قانون العمل.
إذا يصبح من حيث المبدأ جواز إنهاء العقد غير المحدد المدة بإرادة أحد طرفي العقد.
أما العقود المحددة المدة التي لا تتجاوز مدتها خمس سنوات فلا يجوز إنهاؤها بإرادة منفردة من أحد طرفي العقد، فهذه لا تنتهي إلاّ بالتقايل (أي بإرادة الطرفين) أو بانتهاء مدة العقد، عملا بنص المادة رقم (106) من قانون العمل، حيث تنص «إذا كان عقد العمل محدد المدة انتهى من تلقاء نفسه بانتهاء مدته». ولهذا فإن عقد العمل المحدد المدة غير قابل للإنهاء بإرادة منفردة. إنما يجوز فسخه إما من قبل العامل بمقتضى نص المادة (115) من قانون العمل، وإما من قبل صاحب العمل بمقتضى نص المادة (113) من هذا القانون.
وهذا الفسخ له أسبابه وأحكامه التي تختلف عن أسباب وأحكام الإنهاء، والتي تنحصر فقط في حالة استحالة تنفيذ العقد، أو في حالة إخلال الطرف الآخر بالتزاماته الجوهرية المترتبة عليه بمقتضى العقد أو القانون، وفي غير ذلك لا يجوز مطلقا فسخ العقد المحدد المدة.
أو بمعنى آخر يُحظر إنهاء العقد المحدد المدة لغير أسباب الفسخ.
وهذا الحظر ينطلق من قاعدة أسمى وهي وجوب احترام إرادة الأفراد في العقود، واعتبار العقد شريعة المتعاقدين. فإذا ما أبرم عقد محدد المدة التزم الطرفان بتنفيذه حتى نهايته.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن من يُنهي العقد المحدد المدة دون سبب من أسباب الفسخ لا يعتبر متعسفا في استعمال حقه، على خلاف إنهاء عقد العمل غير المحدد المدة كما بينا سلفا، ذلك لأن وصف «التعسف» ليس له محل إلاّ في حالة استعمال الحق، فإنْ استعمل شخص حقه بشكل منحرف وبدون مبرر قانوني قيل انه «متعسف». وهذا ما نص عليه القانون المدني في المادة رقم (28) بشكل واضح.
ولهذا جاء قانون العمل صريحا في المادة (108) ليؤكد على ذلك بقوله: «إذا كان إنهاء العقد غير المحدد المدة بدون مبرر اعتبر الذي أنهاه متعسفا في استعمال حقه».
أما من يُنهي عقد العمل المحدد المدة ولو بدون مبرر فلا يوصف «بالمتعسف» في استعمال حقه، حيث لا وجود للحق هنا، إنما يُقال عن هذا الإنهاء «ابتسار» للعقد دون سبب. ويتحمل الطرف الذي أنهاه تعويض الطرف الآخر عن الضرر المترتب عن هذا «الابتسار» عملا بنص المادة (109) من قانون العمل.
ومما تقدم لا يجوز القبول أو الرضا أو التصريح أو التشجيع، وإنْ بشكل غير مباشر، ومن قبل أية جهة كانت رسمية أو غير رسمية، بنص أو بدون نص، بإنهاء عقد العمل المحدد المدة إلاّ لسبب من أسباب الفسخ السابق ذكرها، سواء وقع الفسخ من العامل أم من صاحب العمل.
بيد أننا نجد قانون رقم (19) لسنة 2006 بشأن تنظيم سوق العمل، وعلى وجه التحديد المادة (25) من هذا القانون، قد خالف تلك الأحكام بشكل صريح لا غموض فيه. إذ جاء في هذه المادة «يكون للعامل الأجنبي دون موافقة صاحب العمل حق الانتقال للعمل لدى صاحب عمل آخر، دون الإخلال بالحقوق المقررة لصاحب العمل بموجب أحكام القانون أو نصوص عقد العمل المبرم بين الطرفين». «وتمنح الهيئة العامل الأجنبي بعد انتهاء أو إلغاء التصريح الصادر بشأنه مهلة مناسبة لتمكينه من الانتقال إذا رغب إلى صاحب عمل آخر...».
ثم يأتي القرار رقم (79) لسنة 2009 منفذا لحكم المادة المذكورة، ليقرر في المادة رقم (3) «يجب على العامل في حالة رغبته في الانتقال قبل انتهاء أو إلغاء تصريح العمل الصادر بشأنه أن يخطر صاحب العمل الأول بخطاب مسجل بعلم الوصول خلال المدة المحددة للإخطار بإنهاء عقد العمل طبقا لأحكام القانون أو عقد العمل المبرم بين الطرفين على ألاّ تجاوز ثلاثة أشهر من التاريخ المحدد للانتقال».
وبالتأمل إلى تلك النصوص السابقة نجدها تقرر وبشكل صريح منح العامل الأجنبي حرية الانتقال إلى صاحب عمل آخر، وهذا التصريح نستنتج منه القبول والموافقة من قبل المشرِّع على إنهاء العقد، دون تمييز ما إن كان هذا العقد محدد المدة أو غير محدد المدة، حيث كان النص عاما مطلقا غير مخصص بنوع من العقود دون غيرها.
فمن هذه النصوص إذا نلحظ أن هناك تعارضا صريحا وصارخا بينها وبين أحكام قانون العمل السابقة في شأن إنهاء العقود، وهذا التعارض ينم إما عن عدم إدراك لأحكام العقود المحددة المدة، وإما لعدم الاعتبار لعقود العمل مطلقا لأسباب نجهلها، إذ نجد المشرع لم يعطِ أي اعتبار لعقود العمل المحددة المدة الملزمة، بل إنه لم يعطِ أي اعتبار للعقد أيا يكن نوعه، بدليل أنه نظر فقط من زاوية «تصريح العمل» أي «الإقامة» طبقا لما نقرأه من النص السابق.
ثم نلحظ أن المشرع بمقتضى النص السابق اكتفى للقبول بانتقال العامل الأجنبي بشرط أن يخطر العامل صاحب العمل بخطاب مسجل بعلم الوصول يعلن فيه نيته عن إنهاء العقد طبقا لأحكام القانون، على أن لا تجاوز ثلاثة أشهر من التاريخ المحدد للانتقال. فمن هذا النص تحديدا يتأكد لنا ما سبق أن أشرنا إليه من أن المشرع قد جهل أو تجاهل أحكام العقود، إذ إنه لم يفرق بين العقود المحددة المدة التي لا تخضع لشرط الإخطار مطلقا أيّا تكن مدة الإخطار، على خلاف عقود العمل غير المحددة المدة التي يلزم لإنهائها الإخطار المسبق.
ومن المؤسف له أن نسمع أن هناك من يتحدث عن نجاعة هذا القانون، بقوله إن التصريح بانتقال العامل الأجنبي لا يُمنح عبطا إنما هناك معايير وشروط يجب توافرها، ومنها عدم منافسة العامل الوطني، وأن لا تكون هناك مخالفة لشروط التصريح، أو أن لا يفقد صاحب الطلب شرطا من شروط منح التصريح، إلى غير ذلك.
فمن هذا القول ندرك أن هناك خلطا وقع فيه البعض بين شروط صحة القاعدة القانونية، وشروط نفاذ هذه القاعدة. إذ إن الشروط أو المعايير السابقة لا تعدو أن تكون شرطا لنفاذ القاعدة وليست شرطا لصحتها. فلا فائدة إن توافرت شروط النفاذ أو التنفيذ دون توافر شروط صحة القاعدة.
ونحن في هذا المقام لا نعيب شروط نفاذ أو تنفيذ تلك القاعدة، إنما نعيب عدم دستوريتها لتناقضها مع أحكام قانون العمل على نحو ما تقدم.
وليت هذا التناقض قد حصل مع قانون العمل وحسب، إنما وقع مع القانون المدني أيضاَ، إذ نجد في المادة (629) من هذا القانون تنص «إذا كان العمل الموكول إلى العامل يسمح له بمعرفة عملاء صاحب العمل أو بالاطلاع على سر أعماله كان للطرفين أن يتفقا على ألاّ يجوز للعامل بعد انتهاء العقد أن ينافس صاحب العمل، ولا أن يشترك في أي مشروع يقوم بمنافسته».
فلو أن هناك عقد عمل تضمن هذا الشرط، فإن هذا الشرط يظل حاجزا مانعا من انتقال العامل (أيّا تكن جنسيته) إلى صاحب عمل آخر لمدة معينة، إلاّ إذا تبين أن فسخ العقد أو إنهاءه كان من قبل صاحب العمل، أو أن صاحب العمل قد ارتكب خطأ بحق العامل حمله على ترك العمل. أما لو افترضنا أن إنهاء العقد كان من قبل العامل دون مبرر وليس لصاحب العمل يد فيه، فإن شرط عدم المنافسة يجب احترامه، ومن ثم يجب منع العامل من الانتقال إلى صاحب عمل آخر في مثل هذه الحالة إلاّ بموافقة صاحب العمل المسبقة.
أما وإذ تقرر هذا المنح بنص قانوني دون موافقة صاحب العمل فإن ذلك يعني إفراغ النص المانع من المنافسة سابق الذكر من مضمونه، وهذا الإفراغ يمثل التناقض بعينه بين النصين، وهذا التناقض يكون سببا من أسباب الطعن في القانون دستوريا كما أشرنا إلى ذلك منذ البداية.
ولا يقدح في قيام هذا التناقض المعيب ما ورد في نص المادة (25) سابقة الذكر عبارة «دون الإخلال بالحقوق المقررة لصاحب العمل بموجب أحكام القانون أو نصوص عقد العمل المبرم بين الطرفين». إذ إن هذه العبارة لا تحمل سوى الإقرار لصاحب العمل في المطالبة بالتعويض متى أصابه ضرر. في حين أن النعي على نص هذه المدة بمجمله ليس لسبب وجود الضرر من عدمه، إنما لما شابه من عيب التناقض ومخالفة القانون.
فلو أن قانونا أو نصا جديدا أباح فعلا كان محرما بمقتضى الدستور أو بمقتضى قانون أو نص سابق، فإن هذا القانون أو النص الجديد يكون عرضة للطعن فيه دستوريا وإنْ كان الفعل الذي أباحه غير ضار، ذلك لأن قابلية هذا القانون أو النص الجديد للطعن ليس لعلة الضرر وإنما لعلة التناقض بذاته.
ومن يقول غير ذلك أخاله يجهل معنى تناقض النصوص وآثار هذا التناقض.
إقرأ أيضا لـ "علي محسن الورقاء"العدد 2567 - الثلثاء 15 سبتمبر 2009م الموافق 25 رمضان 1430هـ