يستمد الزمن تأثيره من وجوده فينا، مفهوم الزمن المطلق في علم الفيزياء ليس له في داخلنا وجود، بل حتى امتداد الزمن في التاريخ نتواصل معه بمقدار تعريفنا لحضوره فينا... وحضورنا فيه.
في القرآن إشارة لربطنا بالأزل، العهد الذي أخذه الله منا بالتوحيد قبل خلقنا هذا، الشهادة الأولى التي نؤدي شهادتنا في هذه الدنيا وفاء بها ولها، ميثاق الفطرة.
وفيه إحالتنا للأبد، القيامة والزمن الأبدي الذي يكون بعد أن يطوي الله السماء كطي السجل للكتب وتختفي حركة الشمس والقمر وينتفي زمننا الذي نقيسه بدورانها ودوران الأرض. ويأتي زمن الأبد، ليتحدث عنه الله بصيغة الآن. واليوم.
وبين الأزل والأبد وجودنا الحاضر الذي يستلزم حضورنا الوجودي... وشهادتنا على الناس - بالقسط والعدل. نتواصل مع الزمن أيضا بالذاكرة التي تحتفظ بالمعاني والمشاعر التي اختزنتها اللحظات حتى وإن مضت اللحظات وصارت عدما، لكن الفعل فيها يبقى موضوعا للمحاسبة، ووجودنا فيها يبقى زادا لمشاعر الغضب، والألم، والحب، والدفء، وغيرها.
سمى الرسول الزمن بمن شاركه فيه، قال وهو الأكرم العطوف عن امرأة أجلسها بجواره وألان لها جانبه فتساءلت عائشة «إنها كانت تأتينا أيام خديجة»، في وصف رقيق دقيق، هذا كان زمان خديجة... فخديجة كانت هناك فملأت الزمان بحبها، فلما مضت ومضى الزمان، صارت تلك الأيام لها، ذكرى وفاء وعطاء وحب ومودة ورحمة، أيام خديجة.
وجود الإنسان يكتمل بالزمن، وإحساسه به.
لا يشعر الغائب عن الوعي بالزمن، ولا الميت، «لبثنا يوما أو بعض يوم»، ولا يشعر المجنون بالزمن، يستوي عنده الأمس واليوم والغد.
وجود الإنسان يقترن في حضوره في اللحظة بأمل في المستقبل، استشراف زمن آت، يكون فيه حاضرا بحق، ويحلم فيه برجال يحملون مشاعل النهوض... ونساء. وحين يفقد الإنسان هذا الأمل في المقبل من لحظات يستوي عنده الحاضر والماضي، ويعيش كالميت، وحده الأمل في مستقبل أفضل وأكرم يمنح للحياة... معنى.
ولكن الزمن ليس ماض وحاضر ومستقبل فحسب، ففي الأزمنة المختلفة طبقات من الوعي، ودرجات من الوجود، لا يستوي من يعيش اللحظة في تجليها الأفقي مع من يعيشها بدفقات العرفان ومستويات الوجدان، ولا تستوي لحظة الوجود المادي مع اتساع لحظة الوجد - عشقا أو عبادة.
يصعب على الإنسان استحضار مرور الزمن طوال الوقت، وإلا أربكه ذلك، لذا فمن رحمة الله أننا ننسى مروره فينا ومروره متجاوزا لنا ومتجاوزين له، وقليل من الناس من يعي قيمته فيستحضر ذلك في كل فعل وحركة، هؤلاء هم النوابغ، الذين ينتجون أضعاف ما ينتجه الناس... وقد وعي أهل الدنيا ذلك حتى جعلوا الوقت رأس مال، وسبقهم لذلك أهل الطريق إلى الله حين تحدوا دوران الوقت بالليل والنهار فكانوا قليلا من الليل ما يهجعون، تركض وراءهم الأزمنة قدوة وإمامة، لأنهم جعلوا الزمن مطية وساروا إلى الأعلى، وفصلوا بين دورة الزمن فيهم ودورانهم به في مسيرهم لله.
وحين ينسى الإنسان دروس الزمن وسنن التاريخ، لأن قدرة العقل على تحمل عبء كل ما يحويه الزمن من حلقات الوجود محدودة، يذكرنا الله بما مضى، كي نستلهم العبرة من الزمن ونعيد صياغة زماننا بوجود مختلف، ووجودنا بزمن متجدد.
السيرة النبوية هي فلسفة للوجود، دروسها عابرة للزمن والمكان، لكنها تتجدد في كل زمان ومكان، تتجلى رؤيتنا لها في ثقافات مختلفة، وتتشكل في الواقع. وتعيد تشكيله.
يختزل الحب المسافات والأزمنة، نستحضر وجود الرسول في أيامنا، ونحيي سنته ونحررها من أسر لحظتها الماضية لتصوغ واقعنا وتنهض بمستقبلنا، ونحبه ونصلي عليه، فيراه البعض منا، لأن الموت ليس فناء في الزمن بل خروجا منه، ليتحرر الوجود... من اللحظة... والمادة.
تتعدد الأزمنة وتتزامن في تنوعها، يوم الله ليس كيوم البشر، وفعل يمتد قد تختزله يد القدرة أو كرامة العلم بالكتاب المكنون إلى أقل من زمن ارتداد الطرف... آيات ربانية تفيض على العبودية فتملكها بعض المفاتيح رحمة.
يتماهى الزمن مع المكان، يمضي الزمن ويبقى المكان، يحمل بصمات من سبقوا، كانوا هنا ثم مضوا، آثار الزمن على الحجر تحيي الذكرى وتستبطن الحكمة.
رمضان زمن رحمة ومغفرة وعتق من النار، عشر ثم عشر ثم عشر... تمسح يد المنان على قلوب العباد تفضلا ويبسط كفه بزمن عبر الزمن، ليلة فيه بألف شهر.
اللهم ابسط لنا الزمن حتى نعبدك وبارك لنا في أوقاتنا حتى نكون كما استخلفتنا عبادك الصالحين، وابسط لنا المكان حتى لا يضيق علينا ولا تضيق صدورنا. وابسط يدك بالنهار ليتوب مسيء الليل في زمن آخر، وابسط لنا يدك بالليل ليتوب مسيء النهار، ستر آخر، وابسط لنا الطوابق حتى تختفي الحجب، وابسط لنا ظلك الممدود حتى تظلنا به جميعا يوم القيامة، وابسط لنا الصراط، وارزقنا الدرجات العليا من الجنة... وامنن علينا برؤية نور وجهك يوم نلقاك، سبحانك يا من ليس كمثله شيء.
اللهم اجعل أيام رمضان فيض رحمة في الزمن، واجعل عيدنا رحمة في الأمكنة، ووسع على من ضاقت بهم الأرض بما رحبت أو قيدهم الظلم فحرمهم من مشاركة الزمن مع من يحبون، وانقطع بهم المكان عن أهلهم.
يا من بيده ملكوت السموات والأرض يا صاحب العرش أرزقنا خير الأمكنة وخير الأزمنة وارفعنا بعفوك وعافيتك.
كل رمضان وأنتم طيبون، وأيام عيد... سعيدة.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2566 - الإثنين 14 سبتمبر 2009م الموافق 24 رمضان 1430هـ