لم تكد تمضي دقائق على إطلاق الحكم صفارة انتهاء مباراة منتخبنا الوطني لكرة القدم ضد نظيره المنتخب السعودي، وتأهل منتخبنا للقاء منتخب نيوزيلندا في الطريق إلى نهائيات مونديال 2010، حتى انطلقت حناجر أهل البحرين دون أي استثناء تنشد أغاني الفرح، وتردد أهازيج التشجيع.
عمت الفرحة مدن البحرين وقراها، ومضت دقائق عاشتها البحرين، بكل جوارحها، موحدة بعيدة كل البعد عن أي شكل من أشكال الانقسام.
لحظات مضيئة في تاريخ البحرين المعاصر، تراجعت خلالها كل عناصر التشتت وحل مكانها، وإن كان ذلك لفترة قصيرة، شعور وطني شامل تظلله فرحة عارمة تحتفل بانتصار البحرين.
نامت البحرين قريرة العين تلك الليلة فقد حقق المنتخب الوطني انتصارين أولهما رياضي على أرض الملعب، وثانيهما سياسي على خريطة التركيبة السكانية للمجتمع البحريني.
صباح اليوم التالي، تصدرت أخبار نتائج المباراة الصفحات الأولى في الصحف اليومية، وغصت مواد الملاحق الرياضية بتهاني المواطنين وتعليقات الصحافيين الرياضيين، تزينها لقطات من تلك المباراة. وفي المساء من ذلك اليوم، سيطرت أخبار المباراة على أحاديث المجالس الرمضانية، لكنها حملت في طياتها نكهة مختلفة، تفوح منها روائح كريهة، تضاءلت الروح الوطنية، وحلت مكانها، دونما أي حق، النزعات الطائفية.
بدأت أبخرة السلوك الطائفي البشع تسود الأجواء، وتسير معظم النقاشات، بل وتسيطر عليها، كي ترغمها على إتباع طريقها الذي تحدده هي، وتقودها إلى نهاياته، حيث مصب نهر الطائفية ذي المياه الآسنة. وصل الأمر إلى البعض بأن ينبش، دون أي مبرر، في أدق التفاصيل، التي تؤهله للتباهي في المسابقات الطائفية المفتعلة، حيث كان يقوم بجردة طائفية سوداء، تتجاوز أعضاء فريق المنتخب، كي تصل إلى اللاعبين الاحتياط والمرافقين الصحيين ومن على شاكلتهم. كل ذلك من أجل استخدام نتائجها لصالح مداخلاته الطائفية.
ترغم هذه الحالة المزرية من يريد الهروب من أسوار الطائفية، أن يغوص، وإن كان بشكل عاطفي وغير منطقي، عميقا في الماضي، ويحلق عاليا في التاريخ، كي يعود نصف قرن إلى الوراء، ويشاهد التركيبة السكانية لخريطة البحرين الرياضية. تصبح المهمة شاقة لشخص مثلي لم يكن في حياته من البارزين في ملاعب كرة القدم، إذ يشوب استعراض الحالة الرياضية في البحرين، وخصوصا في ميدان كرة القدم، بوصف كونها الرياضة الأكثر شعبية وأوسع انتشارا في صفوف أبناء البحرين، بعض الصعوبة والكثير من التحدي. لكن الإصرار على محاربة الطائفية بكل أشكالها تدفع المرء إلى قبول مثل ذلك التحدي.
قبل نصف قرن من اليوم، كان عدد فرق كرة القدم البحرينية يكاد أن يعد على أصابع اليدين. لكن أجواء البحرين، ومن ضمنها سماؤها الرياضية، التي كانت حينها صافية لا تلبدها سحب الطائفية، هي التي اختارت بشكل غير طائفي واضح أسماء الفرق الرياضية، فقد كان هناك فرق «النهضة»، و»النصر» و»الوحدة» و»الهلال»، و«النسور». عكست هذه التسميات فيما تعكس تسميات لا تمت للطائفية بصلة.
إلى جانب تسميات الفرق، كان هناك اصطفاف المشجعين الذي كان يتم على أسس رياضية تنافسية محضة، تتحكم فيها ظروف السكن، وطبيعة العلاقات الاجتماعية، ونطاق الحي، إذ لم تكن الفرق الرياضية تنشأ على أسس طائفية كما تفوح من بعضها اليوم. وهكذا كان المواطن يجد نفسه أمام فسيفساء طائفية متنوعة، بالمعنى الإيجابي للتعبير، تتضامن لتشجع فريق، دون أن تتوقف عند الانتماء الطائفي لأعضائه، أو عند النادي الذي ينتمي إليه.
وعلى نفس المنوال سار المدربون وسواهم من إداريين، فوجدنا الأستاذ شناف فيصل يدرب النهضة، أكبر المنافسين لفريق المحرق، في حين لا يتردد الأستاذ جاسم المعاودة في تولي مهمة تدريب فريق «النسور»، رغم أن خلفيته «الطائفية»، إن كانت منطلقاتنا - لا قدر الله طائفية - كانت ستفرض عليه البقاء بين صفوف فريق «المحرق».
قائمة الشواهد التي تدلل على عدم نقاوة الساحة الرياضية البحرينية من الطائفية طويلة، وبوسعنا الاسترسال فيها، ما يهمنا هنا، هو أنه وباختصار شديد، تم اليوم تسييس الرياضة، وأسوأ ما في ذلك التسييس، كونه للأسف ينطلق من أرضية طائفية، لا تحسن من صورتها بعض الحالات الشاذة. ولهذا وجدنا، أن الرياضة في البحرين، بدلا من أن تزرع روح التنافس البناءة، القائمة على مقاييس رياضية محظة، تبذر روح الطائفية وتعززها بكل أشكال التقسيم المجتمعي المضرة، بالرياضة والرياضيين على حد سواء.
وليست الرياضة هي المكان الوحيد في البحرين الذي بات ضحية لهذا المد الطائفي، فلو تلفت المرء حوله سوف يكتشف أن البحرين اليوم أرخبيل جزر تعوم فوق مياه طائفية، التي انبرت لتغذيتها فئة اجتماعية محددة المعالم، أصبحت لها مصالح مادية في تعزيز العوامل الطائفية، تقسيم المجتمع وتفتيت قواه الإيجابية.
ولا يملك المواطن، البعيد عن أمراض الطائفية، والذي شارك في أفراح فوز المنتخب الجماعية، إلا أن يسكب دمعة حزن غير طائفية علها تحظى بلفتة فئة من بين تلك الجموع المحتفلة كي تمد يدها فتنتشله من مياه مستنقع الطائفية الذي ما لم يتم ردمه، ستنتشر جراثيمه وباء يفكك بنية المجتمع البحريني، وتهدمها لصالح فئة قليلة لا يمكنها أن تعيش في بيئة بحرينية نقية لا طائفية.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2565 - الأحد 13 سبتمبر 2009م الموافق 23 رمضان 1430هـ