تصدرت صورة لبنى حسين الصحف، هذه الصحافية السودانية العنيدة التي صدر ضدها حكم بالغرامة أو الحبس لأنها ارتدت البنطال وليس زي المرأة السوداني، ورفضت الخضوع لعشر جلدات في المخفر والانصراف في هدوء، بل قررت أن يأخذ القانون مجراه لا احتراما له بل تحديا ولكي تدشن بذلك حملة نسوية وحقوقية يهدد أنصارها الآن... بتدويل القضية.
كانت هبة نجيب الشابة المصرية التي كانت حملة ضخمة وراء إطلاق سراحها من سجنها المنزلي قد وصلت للقاهرة قبل أيام عائدة للوطن من محبسها في بيت أبيها في المملكة العربية السعودية، حيث أن أفكارها وتصرفاتها لم تكن تلقى قبول والدها القيادي الاخواني المقيم هناك فقرر سحب جواز سفرها وأبقاءها هناك حتى لا تعود لمصر فتسبب له مشكلات، وبعد أن ذاع الأمر وأصبح مجال نقاش وتغطية صحافية وضغوط داخلية وخارجية رد لها جواز السفر وعادت بعد معاناة مريرة لمصر لتبدأ حياة منفردة عسى أن تداوي الأيام جروح الروح.
في الهاتف كانت الكلمات تخرج من فمه كطلقات الرصاص، هذا الصديق الذي خلعت ابنته الحجاب رغم إرادته، فقرر أن يبقيها في المنزل حتى تعود إلى رشدها، وكانت المكالمة كي يلوم ابنتي على عدم الكشف له عن الدوائر التي تتحرك فيها ابنته والأفكار التي تتعرض لها وبدلت من التزامها الديني، كان ثائرا فلم أملك إلا الصمت لأني أعرف حجم ألمه، وتشابكات المشكلة - جذورا وتجليات.
في المجلة الشبابية المصرية «إحنا» قرأت رسالة مفتوحة من صحافية شابة بالمجلة إلى والدها تناشده أن يتراجع عن قراره بإجبارها على إعادة ارتداء الحجاب بعد أن خلعته فسببت له حرجا في الأسرة، فقرر أن ترتديه رغما عنها، وكتبت عن تجربتها، فتلقت سيلا من رسائل الدعم من فتيات يؤكدن أنهن يرتدين الحجاب ضد رغبتهن، وذكرت في نهاية المقال أنها حريصة على علاقتها بأسرتها، ولكنها لا تشعر برغبة في ارتدائه، ولكن سوف تفعل إذا كان هذا شرط رضا والدها، وتناشده أن يتركها... وحريتها.
هذه الأحداث التي أصبح فيها الحجاب هذا العبء الثقيل والاسدال الأسود على حرية خضراء مقموعة خلفه دفعتني للتفكير في واقعنا الاجتماعي... وفي تأثيرات ثقافات أعرابية اختزلت عفة المرأة في تغطية شعرها، فتم تحديد مساحة المعركة وخسر الجميع الحرب... خسرتها المرأة التي رأت في الحجاب عفتها وتحقق ذاتها فلم تفهم أنه غطاء للأنوثة لكي تشرق الإنسانية والندية في المجال العام، فهو إطار للخروج والفعل والمشاركة وليس حاجبا للذات وسترا للوجود وحائطا للسجن؛ وخسرت القضية أيضا من اعتبرت أن خلعه هو تحررها وتحديه هو انعتاقها فدارت في نفس منطق من ألزمها به اجتماعيا من تحديد الجسد كساحة للنضال، بدلا من استعادة المنظومة الكاملة للآداب والتعامل مع الجسد ومع الذات ومع المجتمع لتكتشف أن المعركة الحقيقية هي في استعادة الفهم الصحيح للدين كرسالة عدالة اجتماعية، وأن الجسد على أهميته أحد أبعاد الوجود الإنساني، فضلا عن أن جسد الرجل أيضا له آدابه، وأن التقوى في النهاية ليست مجال القانون والعصا والسوط ولكنها مجال الموعظة الحسنة والضبط الاجتماعي والمنظومة الثقافية والتربوية.
نظرت أيضا في تحويل الأمر لصراع بين الدولة والناس أو بين الأسرة والفتاة، وكأن بُعد التوجيه الرباني في تناسق وتكامل مساحات الروح ومجالات الجسد ودوائر العاطفة ومدارات الفعل قد صار منسيا، ولعل بعض الكتابات التي طعنت في فرضية الحجاب قد مهدت لذلك، وقد سمعت أكثر من مرة من يذكر أن آيات الحجاب في القرآن غير واضحة أو أنها لا تعني تغطية الشعر ولا الوجه، وهو كلام بالغ الهشاشة في سياقات شديدة الالتباس في تعاملها مع النص القرآني، والسيرة النبوية، لكن من علم الناس دينهم، ومن سمح لهم بأن يقرأوا ويعوا ويتفكروا، وقد نصب البعض أنفسهم حماة للدين يسوقون الناس سوق الإبل ويلغون النقاش ويقطعون الألسنة حتى صار كثير من الناس بفضل هذا القمع الديني يعبدون الله على حرف، وغدوا أقرب للفتنة مما كانوا قبل هذا.
تأملت أيضا في موجات التغيير واتجاهها، فقد كان مفهوما أن تخرج النساء في المشرق في مطلع القرن العشرين لتنادي بالحق في التعليم والعمل، وكان نزع الحجاب عندهم رمزا لتحدي ثقافة الوأد، رغم أن هناك قطاعا أغفله تاريخ الحركة النسوية هم السيدات اللاتي استمسكن بالخمار ورفضن الحجاب بالمعنى الاقصائي والحجب عن الحياة العامة، ومنهن مَلك حفني ناصف بل وزينب الغزالي التي بدأت طريقها مع هدى شعراوي ثم أنكرت عليها نزع الحجاب فأسست السيدات المسلمات قبل أن تنضم لاحقا لجماعة الاخوان المسلمين وتصبح على رأس الأخوات المسلمات بل وأقوى في دعم الجماعة من كثير من الرجال.
وفي عقود تالية صار الخمار شبه ممنوع، إن لم يكن بالقانون كما حدث لاحقا في تركيا وتونس فعلى الأقل بالعرف الاجتماعي، فقد رفضت أسرة أمي أن ترتدي الحجاب في الخمسينيات واتهموها بالتخلف، ففعلت ذلك في مطلع السبعينيات وكانت فريدة في الأسرة آنذاك، وواجهت في مطلع الشباب المنع من ارتداء غطاء الرأس في المدرسة الغربية التي كنت فيها بالقاهرة، فناضلت مع مجموعة من الصديقات كي نفرضه على الإدارة المدرسية، وأذكر أن والدي تركني أختار وإن لم يدعمني في مواجهة المدرسة لأنه لم يكن يرى حاجة له في مدرسة بنات حتى لو كان هناك رجال في سلك التدريس، وكان من جيل الأربعينيات الليبرالي، واحترمت قراره واحترم خياري، أما صديقتي منى فقد كان والدها علمانيا راديكاليا فكان ينزع عنها خمارها كلما رآها ترتديه ولم يكن يحجم عن فعل ذلك في عرض الطريق.
كان الخمار أحد اختيارات هوية اسلامية بدأنا نصوغها في جوانب حياتنا المختلفة، ولم يكن غطاء رأس فقط، بل فرع من منظومة أصلية كبيرة تتضمن الخلق الإسلامي والتعرف على الكتاب والسنة بالقراءة والدراسة، ومتابعة المحاضرات الشرعية في دوائر المجال الإسلامي، من المساجد الرسمية الكبيرة حتى الزوايا السلفية الصغيرة، وكنا نزن ما نسمع... ونختار، ونتقدم في الدراسة بقوة، ونطور مهارات فنية وأذواقا جمالية متنوعة.
اليوم الخمار قطعة قماش على الرأس، لذا إذا نظرت لأسفل لن تجد زيا بسيطا يتسم بالحشمة والجمال بل لباسا رديء الذوق صارخ الألوان تتفنن الفتيات في جعله يكشف أكثر مما يستر، ولا يصيبني الغضب حين أرى ذلك، بل يصيبني الحزن لأن المعنى العميق لتعامل متكامل مع الجسد وربط للظاهر بالباطن وللفردي بقواعد أخلاقية جماعية لدى الرجال والنساء اختل وصار الأمر ملتبسا لدى الكثيرات، شكل بلا مضمون، فتآكل الشكل مع الأيام وانهار المضمون.
الأهم أيضا أن نشير إلى أن الرجال أيضا لهم «حجاب»، فهناك آداب في اللباس ولغة الجسد يهملها الرجال، وليس الأمر محض لبس جلباب بل تعامل مع الجسد بمفهوم شامل والتزام بآداب وتكامل البعد الوجودي والبعد العرفاني في تناغم لا يقدر عليه إلا من يفهم عقيدة التوحيد... فالصراع ليس بين ثقافة ذكورية وجسد المرأة الذي يسعى للتحرر، بل المعركة الحقيقية هي في أن يكون الظاهر والباطن انعكاسا لفهم عميق لفلسفة الإسلام، فلا نهمل الظاهر ونزعم أن الباطن هو مناط الصلة بين العبد وربه، ولا نتمسك بقشور الظاهر فيغدو هو الهوس ويحجب عنا التظاهر بالظاهر السعي لتزكية الباطن، وهذا معنى وسطية الإسلام، دين ودنيا... ودنيا وآخرة.
هل ينبغي التعاطف مع لبنى حسين؟
بالتأكيد نعم، ولا أحسب أني كنت سأفعل شيئا مختلفا لو هددني أحد بالجلد لأني خالفت المنظومة، وكنت سأتحدى القانون الذي لا يحدد معنى الاحتشام، رغم أنها لم تجنح لسفور شائن... وأعلم أن إخوة وأخوات لي لن يعجبهم هذا الكلام، لكن عليهم أن يدركوا أنهم حين يرفعون العصا على امرأة لم تحكم عليها خمارها أو تساهلت في قواعد الستر فإن معاني كثيرة تسقط مع أول سوط أخطر من فعلتها تلك بكثير، وإنه لا سبيل إلا الموعظة بالتي هي أحسن وبيان فلسفة التشريع للناس، وإن آخر جهة يمكن أن تحمي «الأخلاق الحميدة» هي الدولة، وأسوأ أداة هي القانون، وإن ضرب المتظاهرات بالهراوات ليس من الإسلام في شيء، وإن التاريخ يدلنا على أن سلطات أكرهت أهلها على فعل بدون اختيار وطاعة بدون قرار انسلخ الناس في ظلها مع القرون من الدين وتفننوا في إتيان المعاصي، جهارا نهارا فجورا... أو تحت ستار من السواد.
الحرية مركزية في الإسلام، لكنها تتأسس على وعي قوي، وتربية وتزكية طويلة الأمد، وجدل مجتمعي مفتوح، واستعادة لحوار حر بشأن قواعد السلوك وحدود الخصوصية، واليوم التبس الأمر على الناس وقل العلم وتفشى الجهل والترهات، وفي المقابل ساد الغلو والتشدد والتنطع فصد ذلك الناس عن سبيل الله، وهو أخطر على هذا الدين من تفلت يدرك الناس فساده، لكن ترويعهم بمقارع الغلظة سيدفعهم للخروج إلى أي مساحة للتنفس ولو في باطل.
سنن الله لا تتبدل ودروس الهدي القرآني والسنة النبوية تحتاج إلى فهم، والرحمة هي الأساس والإحسان هو السبيل.
أجسادنا وأرواحنا ومساحاتنا تحتاج إلى الحرية، وحين يفهم الناس أن الحرية هي المسئولية، وأن الخروج من ربقة الدين هو حين العبودية، وأن التحرر من الشرع لا يخرح الناس لراحة بل يحشدهم حشا على طريق المادية، فتخلع الفتاة الحجاب لا لتتحرر فعلا بل لتسقط في صورة نمطية أخرى لتبدو «حرة»، ولا تسقط خمارها كي تتحكم في جسدها، بل ليتحكم فيه سوق الموضة والمتاح من الثياب فيه، ولا أعرف إمرأة خلعت الخمار واختطت لنفسها زيا جديدا أو مظهرا متفردا... من الخمار إلى سوق الملابس وأنواعها المعروفة.
هذا زمن فتن، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي كافرا ويصبح مؤمنا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل... لا بحرية أكبر بل بسقوط في تيه.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتّباعه... وهب لنا من لدنك رحمة... إنك أنت الوهاب.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2560 - الثلثاء 08 سبتمبر 2009م الموافق 18 رمضان 1430هـ
اثلجت صدورنا
استاذتنا الرائعة اسال الله ان يصل صوتك وقلمك للآفاق
تعالجين بقلمك اخص المشكلات وبجراة وعلمية
النجدين
لكل امرؤٍ ما سلك ... وهداه ربه النجدين ..
هي الأن في مصاف الراشدين حسب القانون المصري والسوداني أيضاً ولا يحق لأي أحد فرض حريته ورأيه عليها ... ولكن لا ضير في أن تطيع هي الأخرى ولا تعصي أباها ...
كلاهما الأب والبنت على خطأ والحل الوسط هو الاقتناع السلمي و"رخي الحبل" من جهة واحدة .