الإسلام عقيدة سمحاء تقوم على الإقناع والاقتناع، كما تقوم على مبادئ ثلاثة، أولها العدالة، وثانيها الحرية، وثالثها المساواة. وقد برزت آيات العدل والقسط والقسطاس عشرات المرات في القرآن الكريم، وجعل الإسلام مفهوم العدل عاما ومطلقا. عام بمعنى لا يفرق بين المسلم وغير المسلمين، ولذلك قال القرآن الكريم «وإذا حكمتكم بين الناس أن تحكموا بالعدل» (النساء: 58). ولفظ الناس ينصرف إلى عموم البشر، أما الإطلاق فلم يجعل العدل يرتبط بزمان أو مكان، يغني أو فقير، بحاكم أو محكوم، وفهم الصحابة الكرام ذلك بدقة انطلاقا من فهمهم لمعاني القرآن لفظا وروحا، ولذلك أمر عمر بن الخطاب (رض) ابن القبطي المصري أن يقتص من ابن عمرو بن العاص وقال له: (أضرب ابن الأكرمين)، وأضاف العدل مع الحرية بقوله (متى استعبدتم الناس وقد ولدتم أمهاتهم أحرارا). ثم جعل القرآن الكريم الإسلام كدين هو دين الفطرة، والإسلام هنا بمعنيين مهمين، أولهما: مفهوم الاستسلام لله والإيمان بوحدانية، وليس بمعنى الشعائر والطقوس والتي تختلف باختلاف العقائد. وعلى رغم أن مفهوم الوحدانية في إطار الثقافة الإسلامية وصل ذروته في الإسلام، فإنه اعترف بوجود هذه الوحدانية في الأديان السماوية أو بمعنى أدق الابراهيمية بل وقبلها بقوله «ما كان إبراهيم يهوديا أو نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما» (آل عمران: 67).
والإسلام هنا ينصرف للاستسلام لله، وليس لدين الإسلام بشعائره المعروفة، والتي جاءت مع النبي محمد عليه الصلاة والسلام، أما المساواة فهي أساس العدالة وترتبط ارتباطا وثيقا بحركة المجتمع وطبقاته، ولهذا فإن من أشهر الوقائع تلك المنسوبة لخلاف بين سيدنا علي بن أبي طالب (كرم الله وجهة) وبين يهودي أثناء خلافة عمر بن الخطاب، ولما احتكم الاثنان إلى عمر، نادى علي بأبي الحسن أي كنيته، وخاطب اليهودي باسمه، ونفجر الغضب في وجه علي بن أبي طالب ولمس ذلك عمر بن الخطاب فسأله: (اترك غاضبا لأن خصمك يهودي)، فقال: (كلا، بل لأنك خاطبتني بكنيتي وخاطبته باسمه، وهذا ليس من المساواة ولا من العدل). هذا هو التلاحم الوثيق بين المبادئ الثلاثة في الإسلام.
ولم يفرق النبي (ص) بين البشر في التعامل، وذلك روي أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي، كما روي أن جنازة سارت وكان يجلس مع أصحابه فوقف احتراما للجنازة، ولما تساءل أصحابه قائلين إنها جنازة يهودي، قال: (أليست بنفس). ولذلك قال الله تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر» (الاسراء: 70). ولم يقل كرمنا المسلمين، بل عموم البشر.
وعن حرية العقيدة نجد عشرات الآيات نسوق منها قوله تعال: «من شاء فليؤمن ومن ساء فيكفر» (الكهف: 29). وقوله «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (يونس: 99). وقوله: «قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين» سورة الكافرون. وسمى دين المشركين والكفار بأنه دين ولم يقل إنه عقيدة أو نحو ذلك. كما سمى آلهة الكفار آلهة، ودعا احترامهم بقوله تعالى: «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبون الله عدوا بغير علم» (الأنعام: 108).
أردت مما سبق الاستدلال على ان لفظ الدين يطلق على أي فكرة أو مذهب يعتقد أصحابه بأنه دين، ومن ثم فإن الأديان غير الإبراهمية مثل البوذية والهندوسية وغيرها هي أديان وفقا للمنطوق الإسلامي، بغض النظر عن اعتقاد المسلمين بأنها أديان باطلة، ولكن يدعو الإسلام اتباعه لاحترام آلهتهم. وهذه الآيات واضحة في معناها وفي مبناها، وكما يقول الفقهاء لا اجتهاد مع النص، فلا اجتهاد ولا إبطال أو إلغاء لآيات القرآن الكريم، مبدأ الحرية الدينية هو مبدأ جوهري، وأساس في الإسلام، واحترام الأديان الأخرى واجب على المسلمين بغض النظر عن اقتناعهم أو رفضهم لذلك الدين. والتعامل مع غير المسلمين يقوم على أساس طبيعة المعاملة بغض النظر عن الدين، ألم يتعامل النبي مع الكفار واليهود وغيرهم حتى آخر لحظة في حياته؟.
ومن ثم فإن تفسيرات الفقهاء في عصور مختلفة حول الردة، ورفض العقائد الأخرى، ومفهوم دار الحرب ودار الإسلام وغيرها من المفاهيم التي ظهرت ما هي إلا اجتهادات من الفقهاء غير ملزمة للمسلمين إلزاما مطلقا، بل هي اجتهادات ترتبط بعصر وظروف معينة. وحرب الردة التي قام بها سيدنا أبوبكر كان من أشد معارضيها صديقه عمر بن الخطاب ولكنه احترم قراره لأنه الحاكم. والتفسير الحديث لحرب الردة أنها ليست من أجل فرض الدين بالقوة أو من أجل المكسب المادي، وإنما هي دفاع عن النفس وسيادة الدولة لأن انشقاق فريق ممن أطلق عليهم «المرتدون» كان سيضرب الدولة في سيادتها ووحدتها، ولهذا حاربهم أبوبكر، واستمرت حروب بين المسلمين من أنصار هذا الفريق أو ذاك طول مرحلتي الدولة الأموية والدولة العباسية وغيرها وهي حروب بالتنازع على السلطة والذي بلغ مداه في قيام الأخوة بقتال بعضهم بعضا سواء في الدولة العباسية أو الدولة الأموية في الأندلس.
ولهذا فإن المبدأ الرئيسي هو الذي يعصم المسلمين ويحقن دماءهم ويقدم لهم الفكر الإسلامي ليصبح هو مبدأ الحرية الدينية والتسامح والإقرار بحق الآخر المختلف دينيا في اعتناق ما يشاء من الأديان والعقائد وحتى عدم الاعتقاد بأي دين على الاطلاق، والآيات السابق الإشارة إليها ترفض الاكراه على اعتناق الدين «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (يونس: 99). وهو استفهام استنكاري واضح الدلالة.
وأضف لما سبق، أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين والموسوم باسم قرن حقوق وحريات الإنسان ومن بينها حرية العقيدة، ولقد أعجبني تفسير الشيخ يوسف القرضاوي لمصطلح الكفر والكافر، فكل صاحب عقيدة هو كافر - أي غير مؤمن بما سواها - فهذا مصطلح وصفي لعلاقة معينة بين أصحاب العقائد، وليس مصطلح تفضيلي أو قيمي، لأن كل صاحب عقيدة يراها الأفضل والأحسن عما سواه، وإلا فإنه ما كان ليؤمن بهما. ومصطلح الكفر يعني انكار الشيء، وهذا لا يؤثر في وجود هذا الشيء، انه مثل مفهوم الاعتراف في القانون الدولي، فاعتراف دولة ما بغيرها، هو اعتراف كاشف وليس منشئا، انه مقرر لشيء وليس واجد له. فقيام دولة ما حقيقة ترتبط بمعناصر ذاتية وليس باعتراف الدولة الأخرى الذي هو مقرر لوجود هذه الحقيقة. هذا المعنى الدقيق لابد أن يدركه وبأخذه فقهاؤنا الأجلاء في الاعتبار، وعدم الاعتراف بالهندوسية والبوذية ينفى أن من يعتنقون هاتين العقيدتين يماثل عدد من يؤمنون بالدين الإسلامي إن لم يزد على ذلك.
ومن يؤمنون بالعقائد الأخرى مثل عقيدة السيخ أو العقيدة البهائية أو الشنتوية وغيرها، فإن النظرة الإسلامية الصحيحة هي التعامل معهم بكل احترام وتقدير مع احتفاظ كل ذي عقيدة بعقيدته «لكم دينكم ولي الدين» (الكافرون: 6).
ننتقل إلى مفهوم حديث قديم وهو مفهوم المواطنة، وكونه قديم لأنه ارتبط بنشأة الأوطان سواء كان في دولة المدينة اليونانية القديمة، أو في إقليم ما أو في مكة المكرمة التي هي وطن النبي ومسقط رأسه، ولكن الوطن الجديد الذي يتبناه الإنسان ويهاجر إليه له نفس المكانة والاحترام مثل مسقط رأسه، ولهذا عندما فتح النبي مكة وكان طوال حياته في لهجرة يتوق إليها، وإلى الكعبة المشرفة كقبلة، لم يترك المدينة بل اتخذها عاصمة له ولدولته، ولم يفرط في مكة ومكانتها ولا في المدينة ومكانتها، فكأنه اعترف بما يطلق عليه في العصر الحديث مفهوم ازدواج الجنسية. كما أنه اعترف بتعدد الأديان في الدولة الواحدة أي مبدأ المواطنة وصحيفة المدينة التي أكد فيها على التحالف بين المسلمين وغيرهم في المدينة، وقوله لهم ما لنا وعليهم ما علينا، هو مبدأ الحقوق المتساوية للمواطنين في الدولة الواحدة حتى لو كانت هذه هي دولة الإسلام.
ولقد ظل معظم الشعب المصري في معظم شعبها على العقيدة المسيحية عدة قرون بعد فتح الإسلام لها، ومبدأ الجزية ارتبط بالحروب والدفاع عن الدولة، فهو أقرب لمبدأ الضرائب الحالية وهو ليس مبدأ جوهريا لأن المسلمين أو بعض الدويلات الإسلامية عندما ضعفت فرض الأعداء عليها الجزية فهو مثل ضرائب الدفاع في العصر الحديث.
ونقول لعلمائنا الأجلاء أنهم في حاجة لإعادة النظر في اجتهادات فقهاء إجلاء في عصور مضت، ولذلك هالني وأزعجني تلك الفتوى المنسوبة لمجمع البحوث الإسلامية حول وجوب تجريم البهائية وحرمان البهائيين من جميع حقوق المواطنة. وإنني كمسلم كامل الإسلام والإيمان، اعتقد بخطأ هذه الفتوى للأسباب المرتبطة بمنطوق الآيات السابقة وبسلوك سيدنا عمر بن الخطاب (رض) وسيرة النبي الكريم.
حتى لو تجاهلنا كل ذلك وفكرنا بظروف العصر الحديث فإن هذه الفتوى أقرب إلى إعلان حالة الحرب على العالم بأسره لأن ما ينطبق على البهائية يمكن أن ينطبق على البوذية وعلى الكونفوشية والهندوسية والشنتوية وعلى مذاهب إسلامية يعتقد البعض بأنها خارجة عن الإسلام وعلى مذاهب مسيحية، وهكذا فإن مؤدي هذه الفتوى التي لم يتدبر علماؤنا الأجلاء في آثارها على المسلمين حيث توقعهم في دائرة التشدد والتعنت وكراهية الآخر، وإعلان الحرب على العالم بأسرها في عصر نجد المسلمين ضعفاء ومضطهدين، ويوجه لهم الاتهام بالإرهاب. ونتساءل: ما هو موقف علمائنا الأجلاء لو أصدر الفاتيكان فتوى بقتال المسلمين في أوروبا في أميركا، ولو أصدر رجال الدين البوذيين والهندوسيين فتوى بقتال المسلمين في الهند وبروما والصين وسريلانكا واليابان؟. هل مثل هذه الفتاوى يمكن أن يقبلوها؟
إننا كمسلمين نعتقد أن ديننا هو أحسن الأديان، وهذا حقنا، لا يمكننا إجبار الآخرين على الاعتراف بذلك، وإنما نحن نعيش في كوكب واحد أو في وطن واحد، ولابد أن نتعايش معا ونجعل أساس تعاملنا هو المبادئ والقيم الأخلاقية وحقوق المواطنة، ولقد أحسنت ثورة 1919م صنعا عندما رفعت شعار الدين لله والوطن للجميع. هل من وسيلة لإعادة قراءة تاريخنا الإسلامي العظيم وغربلت تراثنا من المفاهيم الخاطئة، أو التي ارتبطت بظروف معينة، وكانت صحيحة في حينه، وهل يمكن للأزهر الشريف أن يقدم مقررا دراسيا في العلاقات الدولية المعاصرة للعلماء الأجلاء قبل أن يتصدر بعضهم للفتوى؟.
كفانا مأساة وتشويها لصورة الإسلام من تلك الفتاوي مثل حديث الذبابة أو إرضاع الكبير أو شرب بول النبي. إن هذه أحاديث وتاريخ لا يمت لجوهر الاسلام الصحيح الذي يحض على النظافة والطهارة والقيم والمثل العليا والأخلاق الحميدة، إنني أدعو علماءنا الأجلاء لقراءة فكر ومنهج العالم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه الرائع (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث). ولعل مفهوم الفقه والتفقه في الدين هو المرجعية الأساسية، وليس قراءة النصوص التي يعرف الكثيرون أن كثيرا منها كان موضوعا أو مختلفا أو محرفا أو مرتبطا بسياق وظروف معينة.
إنني لست عالما في الفقه، ولكنني قارئ للتراث الإسلامي، ولمذاهب العلماء الأجلاء الذين كثيرا ما أفتوا بآراء في مكان وبأخرى في ظروف مختلفة، ولعل مثل الإمام الشافعي والشاطبي وغيرهما خير من يهدينا من خلال اجتهاداتهم ومعرفتهم ووضعهم لعلم الأصول.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2553 - الثلثاء 01 سبتمبر 2009م الموافق 11 رمضان 1430هـ
الحرة
هل الحرية مبداء او بداية للعيش بحرية الحرية كلمة مجرة من التعر يف بنفسها تدخل دون استادان