الصوم في جانبه الشعائري امتناع عن الطعام والشراب وكل شهوة ظاهرة... وباطنة، ثم هو حال للعبد مع الله في تقلب الزمن وتعدد مستويات الوجود الإنساني بين سعي لترويض الجسد وقيام وهمة لسمو الروح، وذلك في توازن لا يخرج بالإنسان من توازنه إلى حيز الرهبانية بل يترقى به في مدارج الربانية.

ونواصل التأمل في رمضان، لأن الحديث عن الجسد والروح غالبا ما يُسقط الركن الثالث، ألا وهو العقل. وقد تأملنا في الأسبوع الماضي أحوال الأمة وشجونها وشئونها، متى تتداعى أجزاؤها لبعضها البعض بالنصرة والتعاون، ومتى تصيبها حالة من الغيبوبة فتفقد مكانتها بالغفلة والتهاون.

اليوم أتأمل في أكثر ما يرهق الصائم، وهو فقد الماء. فكثير من الناس يصبر على الجوع في نهار رمضان، لكن العطش هو المشكلة الحقيقية، وإذا كان نمط حياته يستلزم السعي والعمل في جو حار فإن المشقة تكون أكبر، وكذلك الأجر بإذن الله.

لكن درس الامتناع عن الشراب ليس فقط امتحانا للإرادة، لكنه لفت للمؤمن إلى قيمة ما اعتاده في غير رمضان، وما تؤدي له الألفة للنعمة إلى عدم شكرها.

ماذا تريد في نهار رمضان أكثر من شربة ماء بارد؟ ننتظر الإفطار فنبدأ أول ما نبدأ عادة بالسوائل، بعض اللبن وبعض التمر... وجرعة ماء تطفئ العطش.

نقطة الماء هي البطل في نهار رمضان، البطل الذي يقول أنا قد أكون تحت قدميك وأمام عينيك فهل قدرت لحظة أن تجدني فيها كرها وليس اختيارا؟ هل وطّنت نفسك على رعايتي كنعمة من نعم الله إن غبت جف الحلق وجفت الأرض ونضب مصدر الحياة؟

للثقافة الإسلامية مع نقطة الماء رحلة طويلة، جلست أقرأها في كتاب صدر بالإنجليزية للصديقة فرانشيسكا دو شاتيل التي كتبت منذ سنوات مقالا في الموضوع أهدته لموقع إسلام أون لاين ثم صدرت رسالتها الجامعية التي درات حول الموضوع في كتاب بعنوان «شيوخ ومياه وسدود»، تحرت فيه الفقه الإسلامي حول الماء من وجوب الحفاظ عليه في ظل الندرة وفي ظل الوفرة، ولنا في حديث رسول الله عن النهي عن السرف في استخدام الماء ولو كنت تتوضأ للصلاة ولو كنت على نهر جارٍ، مرورا بصور الماء في القرآن من مصدر الخلق إلى أنهار الجنة، وكيف بنى التراث الفقهي تقاليد عريقة وطور حقوقا بشأن الماء كمورد عام تأسست عليها طرائق التعامل مع مياه الشرب ومياه الري ومياه الصرف في الحواضر الإسلامية بشكل طبع المدن بسمات واضحة في كل أنحاء العالم الإسلامي، وهو ما يصلح اليوم أساسا متينا لمقاومة خصخصة الماء ودعم الحركات الاجتماعية التي تناضل من أجل استعادة الحق في المياه كحق من حقوق المواطنة في مواجهة شبكات دولية من الشركات التي تريد احتكار الماء وتعظيم ربحها على جثث العطشى والجوعى، بما لذلك من تكلفة سياسية باهظة.

أنظر إلى أهم وأقوى القطاعات التي ركز عليها العدو الصهيوني في التثبيت لكيانه الاستيطاني والتعدي على الوجود الفلسطيني: سرقة المياه الجوفية والهيمنة على موارد المياه الإقليمية في ملف التعاون مع تركيا وفي مفاوضات سرية مع مصر وفي خطط لاعتداء على الأنهار في الدول المحيطة من لبنان لسورية للأردن. لقد طوّر الصهاينة وسائل الري بالتنقيط وبرعوا في الزراعة وتقنيات استغلال المياه... لآخر قطرة.

وعلى الجانب الآخر الماء أيضا مورد اقتصادي للأمم لأنه يعتمد عليه في توليد الطاقة وفي الصناعة والاستثمارات الزراعية.

وليس بجديد أن نؤكد أن الحروب القادمة ستكون حول المياه، وأن الكوارث القادمة ستدور حول ندرة المياه، افتقادا للماء وقد نفد الرصيد الاحتياطي من المياه الجوفية تقريبا في الجزيرة العربية إلى جفاف الأنهار في الهلال الخصيب شاما وعراقا، إلى نزاعات حوض النيل حول الأنصبة المختلفة في ماء منابع النيل. الأخطر أنه مع الاحترار العالمي وتغير المناخ بما كسبت أيدي الرأسمالية بعد ثورتها الصناعية التي دشنت نهضة الغرب لكن أيضا دمرت توازن الأرض البيئي ستطغى المياه المالحة على المياه العذبة، فنصف دلتا النيل مهدد بارتفاع منسوب البحر نتيجة ذوبان ثلوج القطب والمأزق الذي نواجهه شبيه في كل السواحل العربية بما فيها سواحل الخليج الفرح بعوائد عاجلة ومغرية لدفن البحر ولا يرى الخطر المحدق به بعد عقود ستمر كمر السحاب.

كل هذا وما زالت السياسات البيئية العربية بشأن المياه متعثرة، لا أحد يريد أن يزعج الناس أو يهيج الجماهير، فيتم إخفاء التقارير الدولية في الأدراج أو التعامل معها بخفة أو بقلة دين بأن يكون التوكل الكاذب هو المنطق وليس شكر النعمة بالتخطيط الرشيد لتنميتها والتوعية لا فقط بسياسات الدولة تجاه الأمر بل بنشر ثقافة الوعي بالخطر وتغيير العادات التي تستنزف مواردنا المائية في كل يوم.

كنت منذ سنوات قد كتبت في جريدة الدستور المصرية خطتي الشخصية لتوفير المياه من خلال صياغة نموذج طبقته في بيتي آنذاك بصرامة واضحة: لا إهدار لمياه صالحة للشرب في غير موضع. الصرف الصحي نستخدم فيه المنصرف من مياه الغسالة الأوتوماتيكية التي وضعت بجانبها خزانا بلاستيكيا متوسط الحجم لإدخار الماء الخارج منها المحمل بالصابون وبقايا الغسل، وذلك من خلال دلو صغير بعد قضاء الحاجة. الباقي نستخدمه في الغسلة الأولى لسلم البناية. بدأ نظام رقابة بين الأولاد لمراقبة الهدر في المياه عند الوضوء أو غسل الأسنان، وكانت الجريمة الكبرى (ووسيلة الإغاظة) هي صراخ أحد الأطفال أن الآخر ترك الصنبور مفتوحا أو فتحه على أقصى طاقته دون داع.

هدر الماء في تنظيف الأرضيات في الحمام توقف باستخدام مساحات أرضية بدلا من الإفراط في سكب الماء والتنبيه على الأخت التي تساعدنا في المنزل بأن الماء ليس مجانيا، وقد نظرت لي باستغراب وظنت في البداية أننا أسرة بخيلة منكبة على توفير كل مليم من فاتورة المياه، فلما شرحنا لها أن الثمن هو هدر مياه صالحة للشرب في حين لا يصل هذا الماء لقرى كثيرة وأن الحساب عند الله وليس عند الناس على هذا السرف بدأت في التكيف مع الثقافة الجديدة بنجاح.

إن نظرة على خريطة العالم العربي تدل على أننا نواجه فقرا مائيا، حتى أن خبيرة موارد مائية في الخليج قالت في مؤتمر في بيروت حضرته مؤخرا: خذوا نفطنا وأعطونا ماء!

إن الأنظمة قد خذلتنا طويلا في إدارة السياسة ولم يعد من الممكن قبول فشلها في إدارة الموارد لأننا قايضنا الحرية بالأمن القومي فخسرنا وقايضنا الكرامة بالسيادة القومية فخسرنا وقايضنا الديمقراطية بالتنمية فأفلسنا، وليس من العقل الاستمرار في منح الخبراء والحكومات كل هذه الثقة المفرطة... حتى الموت.

وسيجد القارئ أنه في مصر وبلاد المغرب بدأت انتفاضات العطش بعد أن كانت الاحتجاجات تدور حول الخبز... وسيزداد هذا في الهلال الخصيب قريبا.

نقطة المياه نعمة نستشعر قيمتها في رمضان، نقرأ مسارها من الخلق للقيامة وما بعدها، ونتعلم من السنّة النبوية أدب التعامل معها، واحترام حقوقها. ويجب أن تكون أحد دروس رمضان المهمة هي رفع درجة الوعي بندرة المياه، وأن يكون من العبادة في رمضان أن نقرأ عن سبل الحفاظ عليه وتنوع استخداماته بحسب أنماط العيش المتنوعة في عالمنا العربي الممتد من ماء لماء... من المحيط... للخليج.