الإعلان عن تشكيل «الائتلاف الوطني» في العراق استعدادا للانتخابات النيابية التي ستعقد في يناير/ كانون الثاني 2010 كشف عن متغيرات سياسية في تحالفات مراكز القوى في جانب وأكد عملية تكيف الديمقراطية مع الانقسامات الأهلية في جانب آخر. فالائتلاف في تركيبته العامة ينتمي في غالبيته إلى طائفة معينة ويضم مراكز قوى في طائفة أخرى.
رئيس الوزراء نوري المالكي (حزب الدعوة) خرج من الائتلاف ذي الطابع المذهبي الموحد. وخروج المالكي يكشف عن نوع من الاختلاف في مراكز القوى السياسية، ولكنه ليس بالضرورة يؤشر إلى إمكان نجاح رئيس الوزراء في تشكيل ائتلاف مضاد يتأسس على قاعدة وطنية تغيب عن مسرحها الانقسامات الأهلية.
المالكي لا يستطيع أن يؤسس كتلة انتخابية خارج الانتشار المذهبي والتوزع المناطقي لمراكز القوى، إذا أراد أن ينافس الجمهور الذي أعلن إبراهيم الجعفري باسمه عن تشكيل الجبهة الائتلافية. الأمر نفسه ينطبق على التكتلات السياسية الأخرى. فالقوى المتنافسة في محافظات شمال العراق أو جنوبه أو وسطه أو غربه ستتكيف مع الإطار الأهلي ولا تستطيع الخروج عليه حتى تضمن نسبة عالية من التصويت.
كل الائتلافات الانتخابية في العراق ستكون خاضعة للانقسامات المناطقية والعشائرية والأقوامية والطائفية والمذهبية، وهي غير قادرة على تجاوز خريطة التضاريس البشرية والموروثات التي تنظم وعي الجمهور وتحدد الاتجاه الذي يسير نحوه الصوت الانتخابي. فالصناديق البلاستيكية الشفافة تعكس مباشرة نسبة التوازن الطائفي والمذهبي والأقوامي والمناطقي في كل محافظة وناحية ومدينة.
هذا «النموذج الديمقراطي» لا يقتصر على العراق. لبنان نموذج آخر لهذا النوع من الفرز الديمقراطي (الأهلي). والنموذج اللبناني متفوق على العراقي في حقل الاختبار حتى لو تم توزيع المواقع (المقاعد) على شرائح سياسية (8 و14 آذار) ولكنها في النهاية تعبّر عن منظومة ائتلافية للطوائف والمذاهب والمناطق. أفغانستان أيضا تعطي فكرة عن صورة أهلية مقاربة للعراق ولبنان. والاختلاف الوحيد أن أفغانستان تنقسم إلى قبائل وأقاليم وأقوام بسبب انتماء معظم مكونات الشعب إلى دين واحد وطائفة واحدة تقريبا.
الانقسامات الأهلية في بلدان تشبه العراق ولبنان وأفغانستان تقرر نتائج التصويت وليس صندوق الاقتراع. فالصندوق مجرد وعاء للاستفتاء واختبار لمراكز القوى أو واسطة للفرز الأهلي وآلة حاسبة لتحديد نسبة المواقع والنفوذ. في أفغانستان مثلا حصلت معركة على الرئاسة بين الرئيس البشتوني حامد قرضاي ومنافسه على المنصب المترشح الطاجيقي عبدالله عبدالله. وفي لبنان حصلت معركة على المقاعد النيابية بين ائتلاف طائفي ضد ائتلاف طائفي آخر تحت يافطات برامج سياسية لا قيمة فعلية لها سوى المساهمة في الفرز الأهلي وترسيم خطوط التوتر بين المناطق والمذاهب. والعراق ليس بعيدا عن قواعد اللعبة الطائفية حتى لو جرى تنويع المجموعات الانتخابية وتوزيعها على مراكز قوى مناطقية أو عشائرية.
فكرة الائتلاف تؤكد موضوع الانقسام الأهلي. فالمعركة الانتخابية لا تحصل على قاعدة الانقسام السياسي وإنما الانقسام الأهلي يعاد إنتاجه وترتيبه سياسيا ليتناسب مع نسبة توازنات القوى في المناطق واللون المذهبي الذي يسود هذه الدائرة (المحافظة أو الأقليم أو القضاء) أو تلك.
في أوروبا (الغربية تحديدا) لا تخوض القوى السياسية معارك انتخابية تحت يافطات ائتلافية. فكرة الائتلاف في أوروبا غير مطروحة إلا بعد حصول الانتخابات وفرز أصوات الصناديق. والائتلاف يحصل بين الأحزاب في داخل البرلمان لا خارجه.
في أميركا أيضا لا وجود لفكرة الائتلاف. فالائتلاف يتأسس في الحزب (الديمقراطي أو الجمهوري) والمعركة تحصل ضد حزب آخر، وليس ضد ائتلاف منافس. الأحزاب في الولايات المتحدة وأوروبا تقود المعركة السياسية وتقرر في ضوء نتائجها مدى نسبة التعاون مع القوى المنافسة تحت سقف المصلحة المشتركة.
الاختلاف بين فكرة الحزب وفكرة الائتلاف يؤشر في سياق العملية السياسية إلى ذاك الاختلاف في تطور العمران (الاجتماع البشري) بين مجتمعات قطعت شوطا متقدما في توحيد العصبيات الموروثة ومجتمعات لاتزال تمر في مرحلة «ما قبل الدولة». فالدولة في البلدان المتقدمة تلعب دور الإناء (الوعاء) الذي يحدد هوية الجماعة تحت سقف الدستور المشترك من دون أن تلغي الانتماء الأصلي أو الجذور اللونية أو الدينية للمجموعات الأهلية. والدولة في البلدان النامية (المتأخرة) هي معطى سلطوي تعطي فئة معينة أفضلية تصويتية للحكم.
الفارق بين النموذجين (الحزبي والائتلافي) يبدأ من صندوق الاقتراع ومدى صلته بالدولة أو السلطة. فالنموذج الحزبي يؤكد النمو الاجتماعي وتوحد العصبيات في إناء سياسي مشترك. والنموذج الائتلافي يؤشر إلى تأخر النمو الاجتماعي وانقسام العصبيات وتوزعها على مجموعات أهلية في وعاء شفاف يعيد إنتاج الانقسام. والاختلاف بين الإناء (الوعاء) الحزبي والوعاء (الإناء) الائتلافي يعطي صورة عن اختلاف وظائف كل نموذج. فالصندوق في النموذج الأول يحدد هوية السلطة السياسية المكلفة بإدارة الدولة لفترة مؤقتة، بينما الصندوق في النموذج الثاني لا وظيفة سياسية له لكونه مجرد وعاء تحدد هويته سلطات الجماعات الأهلية. الفارق بين النموذجين أن الصندوق الأول يحدد هوية الجماعة السياسية التي اختارها الناس بينما الصندوق الثاني فإن الجماعة الأهلية هي التي تحدد هويته السياسية.
بهذا المعنى الوظائفي يمكن فهم عدم قدرة الديمقراطية في بلدان متأخرة في هويتها الجامعة على استيعاب الانقسامات الأهلية والعصبيات المذهبية والطائفية والأقوامية وتجاوزها. وعدم الاحتواء يعطل على الطرف الائتلافي الفائز إمكانات استثماره السياسي لنتائج الانتخابات في اعتبار أن الطرف الخاسر يتشكل بدوره من مجموعات أهلية لا يمكن تجاهلها أو الاستغناء عن خدماتها ووظائفها أو إهمال قدراتها على زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى.
«الائتلاف» الوطني الذي أعلن عنه في بغداد أمس الأول لا صلة له بالفكرة الوطنية (الهوية الجامعة) وإنما مجرد تشكيلة طائفية - مذهبية تتلاقى تحت مظلتها مراكز قوى في المناطق ذات اللون الواحد، ولذلك لن يرتقي سياسيا إلى موقع يوحِّد الانقسامات الأهلية. والائتلاف العراقي المضاد الذي يرجح أن يعلن عنه المالكي قريبا لن يكون في موقع أفضل لأنه أساسا سيتشكل من مجموعات أهلية غير موحدة.
الائتلاف يعني تأكيد الانقسام لا تجاوزه. والديمقراطية في البلدان النامية (المتأخرة) تساوي استطلاعات الرأي في وظائفها السياسية من حيث عدم قدرتها على التوحيد. فالتصويت قناة انتخابية للفرز المذهبي والطائفي ودوره أن يرسم حدود «الأكثرية» و«الأقلية» في نطاق الجماعات الأهلية.
هناك مشكلة بنيوية في العلاقات الأهلية وهي تتجاوز سياسيا حرية الاختيار. فالصندوق محكوم سلفا بالانقسام العضوي والتعصب والعصبيات لأن الأصوات التي يُعاد فرزها لم تصدر عن قرار فردي مستقل وإنما عن جماعة تتحكم في إدارتها «هوية» مغرقة في منابتها الزمنية وتعود إلى فترات تاريخية سابقة للديمقراطية ولعبة الاقتراع.
هذه المشكلة تطرح فعلا علامة استفهام بشأن جدوى ديمقراطية وهمية في بلد لم تتطور علاقاته الأهلية. فالديمقراطية نظريا هي قناة للتوحيد السياسي والدمج الاجتماعي ومنع الاقتتال والقبول بمبدأ الصندوق واختيارات الناس، ولكنها عمليا تأخذ أحيانا وظيفة مضادة في تلك البلدان المتأخرة في نموها العمراني (الاجتماع البشري) حين تصبح آلة عمياء للتقسيم السياسي والفرز الأهلي وعدم الاعتراف بالآخر... وربما ذريعة لممارسة القمع والاستبداد ضد الطرف «الأقلي» أو الخاسر.
الديمقراطية في بلدان تتكاثر فيها العصبيات الأهلية مشكلة سياسية. والمشكلة لا تعني أن «الديمقراطية» سيئة، فهي على رغم كل مطباتها تشكل مناسبة تشجع على إعادة قراءة طبيعة السلطة والعملية السياسية في البلدان النامية من دون أوهام ايديولوجية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2546 - الثلثاء 25 أغسطس 2009م الموافق 04 رمضان 1430هـ