رمضان في جوهره عودة للوعي، واستعادة للنفس من دورة الشواغل اليومية وهيمنة الحسابات المادية، فهو مدرسة للروح لكنه أيضا صحوة للعقل، حيث يزكي رمضان الوعي بالذات فيشرق الفهم.
في كل التاريخ الديني عبر تقاليده المختلفة نجد أن طقوس الصوم المختلفة كانت غايتها الوصول إلى صفاء البصيرة والذهن، وترويض الجسد ونوازعه المتنوعة.
لكن صفاء الروح والعقل لا يعني النظر في إصلاح النفس فقط وعدم التفكر في أمورنا وأحوالنا كأمة، الفارق هو في أنه رمضان يتم من موقع رباني وروحي مختلف... يمكن المرء من النظر بهدوء وأن يتأمل في عمق.
جلست بالأمس أقرأ مقالا عن المسلمين في الصين وسياسات القمع الحديدية التي تتبعها الدولة الصينية. لماذا نسينا هؤلاء الناس، ومتى يقرر الرأي العام الإسلامي أن ينتفض، وما الظرف الذي يكون فيه كما يقول المثل الشعبي المصري «أذن من طين وأذن من عجين».
مازلت أذكر أيام الجهاد الأفغاني الأول، كنا نتابع الصحف والإذاعات قبل عصر الفضائيات والنت، نتحرى الأمور ونبذل كل ما نستطيع للشعب الأفغاني ونصرة المجاهدين. في القاهرة كان البعض منهم يأتي في مؤتمرات المناصرة، وكنا نستمع للغتهم العربية فنبكي، ونقرأ أمارات نصر الله فتخشع قلوبنا لله، وأذكر أنني أجبرت أمي في أيام خلت أجبارا على التبرع بخاتمها الأثير تحت تأثير تكرار آية «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون»، ولم أندم على ما أكرمنا الله به من مساندة بل على أنني جعلتها تتنازل عن خاتم كان يمثل لها مصدرا للذكريات.
فإن قيل انصرفنا للجهاد في فلسطين فشغلنا عما سواه فإن هذا بالتأكيد غير صحيح، فقد عشنا مع الانتفاضة وكنا مع مأساة البوشناق في البلقان أعواما مريرة، وتقطعت قلوبنا على اغتصاب النساء والقتل بالجملة والمذابح.
لماذا اليوم تتثاقل ردود أفعالنا تجاه ما يحدث في الصين، وما يعانيه المسلمون في أفغانستان. إن قنابل الناتو تسقط على قرى فقيرة فتقتل النساء والأطفال في أيام أعراس، وتدمر الحرث وتحرق الأرض، ثم تعترف القوات الأميركية والغربية بأن هناك خطأ في ضرب المدنيين ومعلومات غير دقيقة عن وجود إرهابيين، تعترف ولا تعتذر أبدا.
لماذا انحصر همنا في فلسطين وكأن العراق مفقود فيه الأمل، رغم أن أحوال العراق لا تنفصل عن تحرير فلسطين، ورغم أن أمة لا تستطيع أن تقاطع المنتجات الصينية وتزايد على مقاطعة المنتجات الدانمركية هي أمة تعاني خللا في تقدير المصالح والأولويات... ولا ترى مآل هيمنة يأجوج ومأجوج على العالم، تلك الهيمنة التي لا تعرف القيم التي عرفها قلب العالم، ظاهرها قيم الانسجام وباطنها قبضة شرسة لدولة تدير سوق عمل كبرى تغرق العالم يمنتجاتها وتسير بخطى حثيثة إلى تصدر العالم.
نسينا في خضم متابعة محاولات السلطة الفلسطينية اليائسة لملمة كوادر فتح، وفتح انتهت عمليا وغرقت تحت طوفان الفساد التاريخي، أن نذكر أخوتنا في كشمير، وهناك لم تكف الدولة الهندية عن التنكيل بهم، ولم نستطع نحن أن ندفع بحلول سلمية للحكم الذاتي تحفظ لهم بقاءهم دون أن تخلق كيانا جديدا هشّا، رغم أن لدينا من أدوات الضغط الكثير وخاصة في دول الخليج العربي، لكن الأولويات مختلفة والقبلة ليست هناك - لا قبلة السياسية ولا قبلة القلوب.
أشعر أحيانا أن الأمر تديره آلة الإعلام، وأرجح أحيانا أخرى أن المسألة لها علاقة بتوجهنا للشمال، نتابع أقليات المسلمين في الغرب ولا ندري شيئا عن أقلياتهم في الجنوب والشرق.
رؤيتنا للأمة التي ينبغي أن نبصرها كرقعة واحدة تفتت وتقسمت بل وتشرذمت، نبحث عن السياحة في بلاد الشمال، أو يهرول بعض الناس لأسواق المتعة في الشرق، ولكن أحدا لا يضع قائمة بالدول ذات الأقليات الإسلامية فيقصدها ليشد من أزرهم ويتابع أحوالهم، وقليل من يذهب لدول الأغلبية الإسلامية في الشمال الشرقي... هناك حيث طشقند وأخواتها.
في شهر الصوم كما في الحج يتجدد الشعور بمعنى الأمة، لذا نحتاج لأن نستشعر مسئوليتنا تجاه كل ركن فيها، ونتابع أخبارها وأحوالها بدلا من متابعة أخبار الطلاق والجنون والموت في دوائر هوليوود التي تهتم بها معظم جرائد العرب.
لكن هم آخر يتجدد في رمضان، هو هم الإنسانية بمعاناها الواسع... فرمضان يربط المؤمن بالكون كله ويجدد صلته بالله رب العالمين، فيشعر بالدور الذي يتحمله تجاه العالم وليس فقط تجاه الأمة، وما أعظمها من أمانة وشهادة.
في درا الإسلام نبسط الموائد وندعو عابر السبيل، فلماذا لا نبسط موائدنا في رمضان في كل بقاع الأرض وندعو الناس لطعامنا، قربى لله وتربية للقلوب ورحمة بالخلائق.
رمضان شهر العفو، فلماذا لا نطلق فيه مبادرات التعاون على البر والتقوى والعدالة، وتكون فيه حملات المنظمات الإسلامية المناهضة للتعذيب والاعتقال وانتهاك حقوق الإنسان.
رمضان شهر الجود، فلماذا لا يطعم المسلمون في شهر صومهم الجوعى في العالم بدلا من أن يتضاعف الطعام على موائدهم، وغيرهم جائع.
أذكر أنه في زيارة لأسرة فقيرة من اللاجئين لمصر من جنوب السودان فاجأني سائق السيارة بسؤال: لماذا تدفعين بالطعام لهؤلاء وهم غير مسلمين؟ أليس المسلم أحق بالرحمة؟ وكان ردي: بل الأحق بالرحمة هو المسلم... أي أن الرحمة هي رأسمالنا الأكبر لأن نبينا هو نبي الرحمة، فكيف لا ننثر تلك الرحمة خيرا على كل العباد ومن انقطع به السبيل واشتكى شح الزاد!
شهر رمضان شهر التأمل فلنتأمل في حالنا ومساراتنا وأولوياتنا وعطاءاتنا حتى يتجدد معه شعورنا بالأمانة التي نحملها بقدر ما يتجدد وعينا بالذات.
شهر كريم عظيم... الصوم فيه هو لله وهو يجزي به... والله يعطي على الرفق والرحمة مالا يعطي على غيرهما، فكونوا رحمة للعالمين... وأكثروا من الصلاة على النبي الذي أرسله ربه رحمة للعالمين.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2545 - الإثنين 24 أغسطس 2009م الموافق 03 رمضان 1430هـ
jordan
thank you alor doctora heba for such a great article may Allah bless you.
بارك الله فيكم وبكم
أسأل الله أن يبارك فيكم .. ان يرزقنا التزكية والنقاء والهمة والعمل .. تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال ..
دُمتم بتقوى ..