واجه قرار الحكومة الاسكتلندية بالإفراج عن عبدالباسط المقرحي المدان في حادث تفجير طائرة ركاب أميركية فوق لوكربي، مبررة خطوتها تلك بأسباب انسانية، استياء شديدا وملحوظا في العاصمتين البريطانية والأميركية، فقد عبرت الولايات المتحدة وبريطانيا عن «غضبهما من الاستقبال الحماسي الذي خص به المدان الليبي، عبد الباسط المقرحي»، حيث اعتبر الرئيس الأميركي، باراك أوباما، «منظر المقرحي وهو يحظى باستقبال حماسي من طرف جمهور مبتهج في مدينة طرابلس مثيرا للاعتراض بشكل شديد»، وهدد وزير الخارجية البريطاني، ديفيد ميليباند، ليبيا بأنها «ستواجه رقابة جديدة».
أما ليبيا، فرغم أن الزعيم الليبي، العقيد معمر القذافي، لم يدل بأي تعليق بعد على الإفراج عن المقرحي، واكتفى بلقاء غير رسمي مع عائلة المقرحي، لكنها عبرت عن مستوى موقفها بإرسال نجل القذافي سيف الإسلام لمرافقة المقرحي في الطائرة الخاصة التي نقلته إلى طرابلس. وكان المقرحي، قد تلقى حكما في العام 2001، بناء على إدانته، كما بث حينها في «تفجير طائرة ركاب أميركية تابعة لشركة بان أميركان في رحلتها رقم 103 المتجهة الى نيويورك في ديسمبر/ كانون الاول العام 1988 مما أسفر عن مقتل 259 شخصا على متن الطائرة و11 شخصا اخرين على الارض في لوكربي باسكتلندا».
يثير توقيت إطلاق سراح المقرحي الكثير من التساؤلات، على رغم إبراز الحكومة الاسكتلندية الجانب الإنساني الذي وقف وراء هذا الإجراء، إذ يربط الكثير بينه وبين صفقات نفطية واقتصادية عقدتها الحكومة الليبية مع شركات عالمية، من بينها شركات نفط أميركية، ليس من أجل إطلاق سراح المقرحي بحد ذاته، وإنما لطي صفحة لوكربي، وبدء صفحة جديدة في العلاقات الليبية - الغربية. يعزز من هذا التصورلدى من يتابع قضية العلاقات الليبية الدولية، تلك التطورات التي شهدتها العلاقات الليبية- السويسرية، حيث لم يتردد الرئيس السويسري هانز رودولف ميريز في تقديم اعتذاره للحكومة الليبية عن احتجاز ابن العقيد معمر القذافي لفترة وجيزة العام الماضي، مبررا هذا التصرف بالقول «نحن نعتذر عما حدث لهانيبال القذافي، واتفق الجانبان على تشكيل لجنة لمناقشة المسألة».
وكما يبدو فإن إطلاق سراح المقرحي يحقق أهداف جميع الأطراف ذات العلاقة، فبينما هو يكسر من جهة طوق الحصار المفروض على ليبيا، فهو بالقدر ذاته يفتح الحدود الليبية امام الاحتكارات العالمية، وفي المقدمة منها تلك النفطية.
وقبل الحديث عن أي من تلك الصفقات لابد من تشخيص الأهمية الاقتصادية التي تحظى بها ليبيا ومعها. فعدد سكان ليبيا وفقا لإحصاءات 2008 لم يتجاوز 6.5 ملايين نسمة ، في حين يقدر الناتج الإجمالي القومي بنحو 91 مليار دولار، مما يجعل الناتج القومي للفرد نحو 12.700 دولار أميركي.
وتتميز الجماهيرية العربية الليبية بكونها ثامن أكبر بلد نفطي في العالم، حيث تتمتع باحتياطات نفطية هائلة تقدر بنحو 36 مليار برميل، واحتياطات غاز طبيعي تقدر بنحو 1.3 تريليون متر مكعب. وحتى العام 2003، لم يكن يتجاوز إنتاج النفط الليبي 1.3 مليون ب/ي، لكن تزايد حتى بلغ 1.6 مليون ب/ي، وفي منتصف العام 2005 نجحت طرابلس في زيادة إنتاج النفط الخام إلى ما يزيد قليلا عن 1.8. لكن طرابلس تعمل من أجل الوصول إلى إنتاج 2.1 مليون برميل يوميا مع نهاية العقد الحالي، وتأمل في الوصول إلى هدف إنتاج ثلاثة ملايين برميل يوميا بحلول العام 2013 وأكثر لاحقا.
وتتوقع ليبيا أن تحقق ذلك من خلال استكشافات في مناطق جديدة، ذلك إن، وكما جاء على لسان عضو لجنة الادارة والتخطيط ومدير ادارة تكنولوجيا المعلومات في المؤسسة الوطنية الليبية للبترول، طارق حسان بيك «37 في المئة من المناطق الليبية فقط مستكشفة مؤكدا توافر فرص استثمارية ضخمة فيها».
ومنذ العام 2005، وفي أعقاب رفع العقوبات الدولية، هرولت الشركات العالمية، وعلى وجه الخصوص النفطية منها، وفي مقدمتها الأميركية من أجل نيل حصتها من كعكة النفط الليبية. وقد انتزعت الشركات النفطية الأميركية خلال العام 2005، وفقا لمصادر رسمية، «11 عقدا من إجمالي15 عقدا كانت ليبيا قد أعلنت عنها في ذلك الحين، وفازت بها الشركات الأميركية في نهاية يناير الماضي وتم التوقيع عليها الأيام الماضية بطرابلس، ضمن منافسة شاركت فيها 56 شركة عالمية من أميركا وأوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية وكندا وأستراليا وفي أول مسابقة مفتوحة للنفط في ليبيا».
ويرى المحلل النفطي الأميركي جيمس كوكس أن «قطاع النفط في ليبيا في حاجة ماسة إلي الاستثمارات الأميركية بسبب سوء الحالة للمنشآت النفطية والحقول التي تضررت بشدة نتيجة العقوبات التي فرضت على ليبيا بعد اتهامها بالتورط في حادثة لوكيربي علاوة على حرص طرابلس على زيادة إنتاجها النفطي في السوق العالمية».
ويؤكد كوكس على «أن الشركات الأميركية لاسيما أوكيدنتال بتروليم وكونوكرفليبس وماراثون وأميركان امرادا لديها رغبة قوية في العودة بقوة إلي ليبيا حيث كانت تنتج مليون برميل يوميا قبل مطالبة إدارة الرئيس ريغان بالرحيل العام 1986».
في ضوء كل ذلك، فمن غير المستبعد ان تتراجع أصوات الضجيج الأميركي، وتخفف العواصم الغربية، بما فيها لندن وواشنطن من حدة لهجتها الهجومية على طرابلس، يقابل ذلك سلوك مماثل من العاصمة الليبية، بعدم تصعيد الاحتفالات بعودة المقرحي، وإعادة النظر في سياستها الخارجية المتطرفة في معاداتها الإعلامية للغرب، كي يصل الطرفان، في نهاية المطاف، إلى حل وسط يشبع شهية الاحتكارات من جهة ويخفف من الضغوط على طرابلس من جهة ثانية. ولم يكن المقرحي أكثر من مفتاح أداره الطرفان سوية كي يفتح أبواب صفحة جديدة من العلاقات ستعرفها الساحة الدولية في القريب العاجل
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2543 - السبت 22 أغسطس 2009م الموافق 01 رمضان 1430هـ