العدد 2541 - الخميس 20 أغسطس 2009م الموافق 28 شعبان 1430هـ

رحيل ابن باجه وقدوم ابن طفيل

صعود الفلسفة في زمن دولة الموحدين (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تصادف رحيل الفيلسوف ابن باجه في لحظة انتقالية من عهد المرابطين إلى دولة الموحدين. وبسبب اضطراب البيئة السياسية اضطربت أفكاره وتقطعت أوصال منظومته بعد فشل مشروعه في التوفيق بين الشريعة والفلسفة. فأدبيات ابن باجه عن العلم الالهي قليلة. وهي إلى قلتها ضعيفة في تبيان الصلة بين المسألتين. وتلك نقطة ضعف كبيرة في مشروعه الفلسفي بمقاييس ذاك الزمن، ستعرضه لاحقا إلى نقد ابن طفيل وابن رشد.

تختلف ظروف ابن طفيل وابن رشد عن فترة ابن باجه وبيئته السياسية. فابن باجه عاش طفولته ومطلع شبابه في نهاية عصر «أمراء الطوائف» فانتقلت مدينته (سرقسطة) من عهد الطوائف إلى المرابطين وتعاون مع والي المدينة في عهدهم حتى استيلاء الفرنجة عليها، فاضطر إلى النزوح جنوبا. وهناك تعاون، كما ذكرنا، مع أصحاب المدن وتبوأ المناصب الوزارية إلى أن استدعاه والي فاس فارتحل إلى المغرب وعاش حياته في جو مضطرب شهد بدايات الانتقال من دولة إلى دولة. فابن باجه عايش لحظة انتقالية أولى من الطوائف إلى المرابطين حين عادت الأندلس موحدة سياسيا وتابعة إداريا للمغرب. ثم عايش لحظة انتقالية ثانية من المرابطين إلى الموحدين، إلا أنه لم يشهد انهيار دولة المرابطين. بينما عاصر ابن طفيل مرحلة تفكك دولة الوحدة المرابطية وعايش انهيارها وصولا إلى إعادة توحيدها سياسيا وتنظيميا بقيادة الموحدين. فترة الفيلسوف ابن طفيل انتقالية لكنها أكثر استقرارا من فترة ابن باجه. وينطبق الأمر نفسه على فترة ابن رشد مع اختلافات تفصيلية عرفتها دولة الموحدين في عهد الأمير المنصور حين بدأ الضعف يضرب دولته.


عائلة عربية

لا يعرف بالضبط تاريخ مولد محمد بن عبدالملك (ابن طفيل) ويرجح أنه ولد في بلدة وادي آش (جوار غرناطة) من عائلة عربية نسبتها إلى بني قيس من العرب في سنة 504 هجرية (1110م) ويقال في سنة 506 هجرية (1112م) بينما ولد ابن رشد في قرطبة في سنة 520 هجرية (1126م) من عائلة مرموقة، إذ تولى جده ثم والده أمر القضاء فيها. عندما توفي ابن باجه في سنة 533 هجرية (1139م) كان ابن طفيل في 27 أو 29 من عمره، وابن رشد في 13 من عمره. وهو أمر ساق بعض المشتغلين في تاريخ الفلسفة الإسلامية إلى القول إن ابن باجه كان أستاذ ابن طفيل، وهو أمر نفاه الأخير حين أكد عدم اتصاله أو معرفته به، إلا أن شبهة دراسة ابن طفيل على يد ابن باجه ظلت مثار جدل بسبب غموض تاريخ ولادة ابن طفيل وعدم وضوح نشأته الأولى. فأسماء اساتذته وشيوخه مجهولة، الأمر الذي رجح احتمال الاتصال في فترة نزوح ابن باجه من سرقسطة في سنة 511 هجرية (1117م) إلى المرية وغرناطة. وفي غرناطة تولى، كما ذكرنا، ابن باجه مسئولية وزارية وربما يكون حصل التعارف بين الشاب الصغير (ابن طفيل) والوزير في تلك الفترة القصيرة قبل انتقال ابن باجه إلى إشبيلية ومنها إلى فاس.

وبعيدا عن صلة ابن باجه بابن طفيل الشخصية تبقى هناك صلة أقوى وهي اشتغالهما على الفلسفة ومحاولات التوفيق بينها وبين الشريعة. وهي مهمة صعبة بذل ابن رشد بعدهما جهودا شاقة للوصل بينهما وفشل.


اختلاف البيئة

على رغم تشابه حقول المعرفة بين الثلاثة اختلفت تصوراتهم بسبب اختلاف البيئات السياسية والاجتماعية والمعرفية. فابن باجه عاصر فترة الانقسام السياسي إلى الوحدة ثم عاصر في نهاية حياته فترة انتقالية من الوحدة إلى الانقسام مهد إلى وحدة سياسية جديدة. وابن طفيل شهد عصر التحول من المرابطين إلى الموحدين وتوفي في لحظة وصلت فيها الدولة إلى طورها الأعلى. بينما سيراقب ابن رشد بداية هبوط دولة الموحدين من الأعلى إلى الأدنى.

بين ابن باجه وابن رشد يمثل ابن طفيل مرحلة وسيطة خطيرة في درجات تطور الفلسفة في الأندلس. فهو نموذج المثقف السياسي الذي اشتغل منذ شبابه في إدارات الدولة واقترب من سلطة الموحدين في بدايات صعودها، فهو رجل دولة في صيغة فيلسوف وفيلسوف في صيغة رجل الدولة. وسيكون لهذه الازدواجية دورها في التأثير على ابن رشد حين قام ابن طفيل بتقديم قاضي قرطبة إلى أمير دولة الموحدين.

لعبت الصراعات العنيفة دورها في صنع المثقف السياسي في شخص ابن طفيل. فهو رافق تطور الحوادث في لحظة انهيار دولة ونهوض دولة. وهي لحظة سيكون لها شأنها حين احتاجت الدولة الجديدة إلى عناصر إدارية شابة، فاستخدمت رجال فترة الدولة القديمة، كما استعانت بالجيل الشاب من أمثال ابن طفيل.


تعاقب الأجيال

ذكرنا سابقا أن ابن باجه توفي في السنة التي رحل فيها ولي عهد دولة المرابطين (الأمير سير) في حادث غامض وانتقال ولاية العهد إلى شقيقه تاشفين. وجاءت ولاية تاشفين في زمن غير مناسب وفي فترة انتشرت فيها دعوة الموحدين في بلاد المغرب وأخذت تحرض القبائل على التمرد مستفيدة من ضعف رقابة المرابطين وانشغال قواتهم في التصدي لهجمات متكررة من الفرنجة في الأندلس.

حاول تاشفين تنظيم الدولة وإعادة جدولة أولوياته السياسية، فوجد أن ضغظ الموحدين في المغرب أكثر شدة من ضغط الفرنجة في الأندلس. فالحروب التي شنها الموحدون أحدثت حالات خوف في بلاد المغرب، فاضطرب الأمن وازدادت الانقسامات، فحصلت موجة نزوح معاكسة من المغرب إلى الأندلس هربا من مخاطر غير محسوبة، خصوصا بعد أن تحرك عبدالمؤمن من بلاد المصامدة إلى الغرب، وبدأ الموحدون يقتربون إلى ريف سبتة وتطوان في سنة 536 هجرية (1141م).


نهاية مأسوية

استخدم تاشفين كل الوسائل للقضاء على الموحدين ففشل، الأمر الذي خيب أمل والده علي بن يوسف، فعزم على خلعه، وتسمية ولده الأصغر إسحق وليا للعهد، خصوصا بعد أن نجح جيش عبدالمؤمن في غزو مدينة المزمة (ناغروت) والواط ومليلة ووهران، وأخذت القبائل المتحالفة مع لمتونة (المرابطون) تفك الطاعة وبدأت تميل إلى المصامدة (العصبية الصاعدة).

في هذا الظرف الدقيق من توازن القوة بين العصبيتين توفي الأمير علي بن يوسف في سنة 537 هجرية (1142م) بعدما بلغته أخبار انتصارات الموحدين، وكانت مدة إمارته نحو 37 سنة. بعد رحيله اتسعت المواجهات بين تاشفين وعبدالمؤمن، فحصلت معركة في سطيف دامت مدة شهرين انتصر فيها الموحدون فتراجع المرابطون من تلمسان إلى وهران. فأخذ تحالفهم القبلي يتفكك، وبدأ الشمل يتفرق وبقي تاشفين يقود قوات مشتتة فلاحقه أبو حفص (أحد قادة جيش عبدالمؤمن)، فحاصره فهرب ليلا فصادف «حافة حاف»، كما يذكر المراكشي في تاريخه، وسقط وقتل من أصحابه «خلق كثير وفر منهم جمع كبير» في سنة 539 هجرية (جزء4، ص104).

وصلت أخبار هزائم المرابطين وموت قائدهم تاشفين إلى الأندلس، وبدأت دعوة الموحدين تظهر في أكثر من مكان، وأول من قام بدعوتهم أهل مارتلة (مدينة قرب باجه في البرتغال) ثم طليطلة في سنة 539 هجرية (1144م).

تولى إبراهيم بن تاشفين إمارة المرابطين بعد أن عهد إليه والده بها قبل شهر من مقتله وهو مقيم في وهران. لكن عمه إسحق بن علي خالف بيعة إبراهيم ودعا لنفسه فازداد الخلاف وانقسمت شوكة لمتونة بين العم (إسحق) وابن الأخ (إبراهيم). واستفاد الموحدون من الانشقاق فزاد ضغطهم على الجبهات العسكرية إلى أن حاصروا عاصمتهم مراكش سنة 541 هجرية (1146م) فامتنع إبراهيم مع من تبقى من المرابطين في قصبته عن الاستسلام واستمر القتال والقتل إلى أن تم أسر إبراهيم وقتل مع جماعته. وبموته انقرضت دولة الملثمين (المرابطون) التي استمرت دورتها الزمنية نحو مئة سنة، لتقوم مكانها دولة سيكون لها شأنها الكبير في تاريخ المغرب والأندلس.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2541 - الخميس 20 أغسطس 2009م الموافق 28 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً