في المقال السابق تحدثت عن البحث عن السعادة في التفاصيل الصغيرة.
واليوم أحب أن أكتب عن التفاصيل الصغيرة في علاقتها بالجمال.
من فرط معاناة المواطن العربي في حياته اليومية من الفقر تارة ومن الاستبداد تارة أخرى، وحتى في الأوساط التي تتمتع بحياة اقتصادية مريحة، يبقى الشعور بالجمال مسألة هامشية، يراه من يعاني من ظروف الحياة الصعبة ترفا لا أهمية له أو زيادة لا قيمة لها، ويظنه آخرون - خطأ - يتعلق بمراكمة الثمين من الأثاث والحلي والمباهاة في الملبس والمظاهر.
لكن الشعور بالجمال شيء آخر، إنه الحس الرفيع بقيمة الجمال في التفاصيل الصغيرة... وفي كل الظروف.
نظرت في رأس المال الحقيقي للإنسان فوجدت أنه القدرة على رؤية الجمال، فما قيمة أن تملك المتاع ولا تلاحظ الجمال حولك، تقتني الثمين دون أن يكون لديك حسا جماليا راقيا يحول الأمور البسيطة لمصدر للسعادة لأنها جميلة، وما أسوأ وأقبح الكثير من المقتنيات التي رأيتها - الشخصية والمادية - رغم قيمتها النقدية العالية، لكنها ببساطة تفتقر للجمال.
في تدريس نظريات التنمية التفت أهل العلم لفكرة قيمة العلاقات الاجتماعية، فتحدثوا عن رأس المال الاجتماعي من شبكات دعم وعلاقات صداقة وقرابة تعد ثروة للفرد في مواجهة ظروف الحياة، لكن ما افتقدته في كل ما قرأت وسمعت هو ما سميته لطلابي يوما: جماليات التنمية.
مهما كان المجتمع فقيرا، فإنه قادر على إضافة اللمسة الجمالية، والفقر ليس مقابلا بالضرورة للقذارة والقبح والارتجال السيئ.
وكنت دوما أضرب مثلا طريفا هو استغرابي حين كنت أطالع كتب تاريخ الفن من دقة وألوان الرسوم التي تركها إنسان العصور الحجرية في المغارات والكهوف.
ما الذي دفع هذا الإنسان الذي كان يناضل من أجل البقاء في مواجهة الحيوانات الشرسة ومخاطر البيئة المحيطة أن ينشغل بالرسم والتلوين على جدران كهف أو سفح جبل؟
لماذا وجد نفسه رغم المخاطر والتهديدات التي يتعايش معها قادرا على الرسم، بل حريصا على التلوين، اللهم فطرة استودعها الله نفسه البشرية تتطلع للجمال وتحب درجات الإحسان العالية.
تأمل كل الآثار، نقوش المصريين القدماء على جدران المعابد، ومثلها لدى الهندوس وأهل الصين، والزخارف التي تزين حوائط وأسقف المساجد، وتجميل الخط العربي بفنون رائعة... هذا الولع المذهل بالجمال.
لذلك إذا أردنا أن ننمي حياة الناس فلا بد أن نأخذ التنمية الجمالية في الحسبان.
نمنح الناس قدرات ونطور مهارات، لكن أيضا نلتمس في واقعهم معاني الجمال ونرقي ذوقهم الجمالي والإبداعي.
هذه البيوت الفقيرة في القرى البعيدة المحرومة من الخدمات، لماذا هي بهذا القبح؟
لماذا لا نستعيد تراث تزيين الجدران والحوائط الخارجية الذي اندثر والذي كان له من أهل تلك المجتمعات فنانين ومبدعين؟.
في الاسكندرية نشأت جمعية أهلية اسمها جدران لطلاء بيوت الصيادين البسطاء بألوان زاهية تسر العين وتبث في النفس التفاؤل.
وفي سيناء ذهبت المعونة الدانماركية إلى العريش وإلى أماكن البدو لتعين النساء على الحفاظ على فنون التطريز البدوي التي هجرتها الفتيات الصغيرات لصالح الملابس التي تأتي من المدينة أو ربما التطريز الآلي القادم من مصانع الصين!
اليوم في شوارع القاهرة الحفاوة برمضان لا تجد تجلياتها الجمالية إلا في الأحياء الشعبية، حيث يعلق أبناء الشوارع الضيقة الأعلام الورقية الملونة التي يقصونها في جماعات وفي وسط الشارع يعلقون فانوسا من الورق الملون... تراث جمالي واحتفالي بسعر زهيد يبث البهجة ويوطد علاقات أبناء الحي.
حتى حلي النساء التي ترتديها كل يوم كانت تعكس تراثا جماليا، نقوشها المنمنمة الدقيقة جمال يزين معصم أو جيد، كان النقش على الذهب فن الفنون، لأنه فعل الإنسان في المادة كي يبث فيها روحا منه، تحييها عبر العصور، تتميز قيمة قطعة الحلي بدرجة دقة النقوش وجمالها، يد فنان أبدعت... لتضيف لأنوثة المرأة، واليوم فصوص الأحجار الثمينة تريد أن تمنح عنوة قيمة جمالية بارتفاع القيمة المادية لحجر.
يسير أطفالي معي في الطريق، تخطف أعينهم الإعلانات المضيئة ولافتات المتاجر الجذابة، وألفت نظرهم لجمال وردة أو ألوان قطة أو معمار مسجد قديم يفوح بعبق التاريخ.
حتى اختلاط الظل بالنور له جماله، وألوان السماء، ولمعان نجمة، انسياب ماء النهر على ضفاف شاطئ، وصوت كروان يغرد: الملك لك... لك... لك.
ابنتي الكبرى تعلمت كيف تلتقط الجمال في صورة على كاميرتها وتبثها على «فليكر»، وحظيت صورها بإعجاب الكثيرين، وتتمنى أن تجيد في هذا المجال وتتميز، وأنا أتمنى أن يكون هذا أحد مساحات إبداعها، وتحققها. أما الابنة الصغرى فتحب الرسم، ولكنها تفضل استخدام القلم الأسود وتتفنن في التظليل، ربما يعكس هذا شخصيتها الحاسمة التي تميز بين الأبيض والأسود، حادة وصارمة وواضحة، بلا تلون ولا مداراة.
جمال الأفكار أيضا جزء من جمال الحياة، التفكير في إسعاد الآخرين تفكير يتسم بالجمال. وهناك جماليات اللغة، تلك التي يجيدها أبسط الناس في موريتانيا وفي جنوب مصر واليمن وغيرها من البوادي العربية، شعر يلقيه بعضهم فيرد عليه آخرون، بعفوية وجمال، فتعلوا كلمات الاستحسان: ثروة الشعوب ومخزون حضاري ثمين.
أينما التفتنا نجد إمكانيات واسعة للجمال وفقر في إدراكه وعجز عن انتاجه، نضوب هذا الحس الجمالي أخطر من نضوب الثرات الطبيعية؛ لأنه يعكس افقارا في الأبعاد الانسانية والاجتماعية.
لذا فإني أتمنى أن نراعي بث اللمسة الجمالية في التفاصيل الصغيرة، والاحتفاء بمظاهر الجمال الدقيقة والرقيقة، ولو كانت وردة في اصيص زرع في نافذة غرفة بها أثاث بسيط في حي فقير، أو لمسة لون في ثوب امرأة ريفية، أو مسبحة تتنوع ألوانها في يد شيخ ذاهب للصلاة في شارع في أطراف المدينة.
إن الله جميل يحب الجمال... فتأملوا جمال خلقه في التفاصيل الصغيرة... وجملوا أصغر أركان الكون وأنتم تعمرونه.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2524 - الإثنين 03 أغسطس 2009م الموافق 11 شعبان 1430هـ
أهمية التفاصيل الصغيرة
التفاصيل الصغيرة تغير كثير من الأمور الكبرى لكننا لا نحسن التعامل حتى مع الأسس الكبيرة فكيف نكيف ونتكيف مع التفاصيل الصغيرة بالرغم من أهميتها لأن من لا يملك أم التفاصيل يستطيع أن يمتلكها من خلال تفاصيله الجمالية الصغيرة المهم أن نستشعر أهمية وجمالية التفاصيل الصغيرة.
فالشجرة العملاقة لم تكن سوى بذرة زرعت في أصيص صغير جدا. والوردة مهما كبرت فإنها صغيرة وجمالها في صغرها ، لكن المهم كيف ننظر نحن الى الاشياء وكيف نستمتع بكل تفاصيلها.