مراقبة الساحة السياسية البحرينية من بعيد مع التركيز على أجنحتها الديمقراطية، وتحاشي الدخول في تفاصيل حركة تلك الأجنحة اليومية، تبيح للمراقب أن يتلمس بعض الثغرات الاستراتيجية التي يعاني منها الحراك الذي تمارسه تلك الأجنحة، في سلوكها السياسي اليومي، سواء في العلاقات التي تنسجها فيما بينها، أو تلك التي ينسجها فريق منها مع قوى أخرى من خارجها.
مصادر هذه الثغرات متعددة، وهي التي وقفت ولا تزال تقف حاجزا أمام أي شكل من أشكال العمل المشترك بين مختلف فصائل تلك الحركة. ومن هنا، ولكي تحدد الحركة الوطنية الديمقراطية نقطة انطلاقتها، لابد لها في البداية أن تحدد تلك الثغرات التي تعاني منها والتي يمكن أن نلخص أبرزها في النقاط التالية:
1. التربية السياسية والايدلوجية التي رضعتها قيادات الحركة الوطنية الديمقراطية، وتشربت بها كوادرها الرئيسية في مرحلة النضال السري، والتي يصعب اليوم تخلي صها نهائيا منها، وفي هذه المرحلة ذات الطابع العلني.
هذه التربية القائمة أساسا على «الإغراق في السرية»، والخوف من كل ما هو علني، خشية أن تؤدي العلنية إلى ثمن باهض يدفع ثمنه المناضلون، بل وفي أحيان كثيرة المواطن ذاته، كما شاهدنا في اعتقالات واعدامات 1975، وانتفاضة مارس/ آذار 1965 على التوالي.
2. خشية هذه القوى من فتح حوار علني مفتوح مع أي من القوى السياسية المحسوبة على أي من مؤسسات مرحلة «قانون أمن الدولة»، وهي خشية قاتلة؛ لأنها تقوم على سلوك إستاتيكي يفتقد إلى دينامية النظرة العلمية القائمة على رؤية الأمور في حركة دائمة.
ليس المطلوب هنا التفريط في المبادئ، ولا الترويج للتعامل الأعمى غير المسئول مع كل مؤسسات تلك المرحلة، بقدر ما هي دعوة لرؤية القوى الفاعلة في الساحة السياسية اليوم من منظار ديناميكي، يرصد تحولاتها ويستفيد مما هو إيجابي فيها، دون التفريط بالقيم والمبادئ.
3. اختلال توازن القوى الديمقراطية جراء الحركة السريعة الخاطفة المفاجئة غير المرحلية، التي انتقلت فيها البحرين من نظام «قانون أمن الدولة»، إلى ساحة الميثاق الوطني، والتي لم تتمكن الحركة الوطنية الديمقراطية، من استيعاب نتائجها، والتفاعل السريع مع انعكاساتها السياسية، ليس على مستوى العلاقات مع الدولة ومؤسساتها فحسب، وإنما على مستوى العلاقات بين صفوف القوى المعارضة أيضا، بما فيها الاتجاهات الديمقراطية.
هذا الانبهار قاد إلى إصابة تلك الحركة بشيء من الشلل، وأحيانا أخرى بالتأرجح غير المقصود عند نسج التحالفات. وعلى وجه الخصوص عند تحليل السلوك السياسي لعناصرها السياسية القيادية التي عادت من الخارج، نظرا، لاختلاف البيئة النضالية التي باتت تحتضنها.
4. التحولات التي عرفتها موازين القوى بين صفوف التنظيمات السياسية، والنزيف البشري الذي بدأت تعاني منه الحركة السياسية الديمقراطية، والذي اتخذ أربعة اتجاهات رئيسية، من جراء عوامل كثيرة عانت منها تلك الحركة، البعض اتجه نحو مؤسسات الدولة، والبعض الآخر استقطبته الحركة الإسلامية، وفريق آخر فضّل الانطواء على الذات، والانصراف نحو أموره الشخصية، والفئة الرابعة، وهي الأهم، وتلك هي التي لم تساوم على مواقفها الوطنية، لكنها فضلت الابتعاد عن أي شكل من أشكال العمل الحزبي المنظم.
5. سيطرة نزعة «التقييم الدوني» للذات، والانبهار بالانتشار الواسع الذي باتت تنعم به الحركات السياسية الإسلامية، والذي جاءت انتخابات المجالس البلدية، والبرلمان لتؤكد قوة ذلك الانتشار، وتعزز سلوك «الانتقاص» من القدرة الذاتية للحركة الوطنية الديمقراطية، ودفعها نحو القبول بالكثير من أشكال التبعية عند محاولاتها لنسج أي شكل من أشكال التحالفات، واعتباره مكسباَ لها، ناسية أو متناسية، بوعي أو من دون وعي، الثقل المبعثر الذي بحوزتها، والتي أصبحت عاجزة عن الاستفادة منه.
6. الخوف من استفزاز الحركة الدينية السياسية في أي برنامج وطني تتبناه الحركة الوطنية الديقراطية، الأمر الذي أسر تلك الحركة في إطار سياسي ضيق، حرمها من الاستفادة من الكثير من خبراتها التنظيمية ومهاراتها التعبوية التي اكتسبتها في أحلك مراحلها، وهي قدرات تنفرد بها كوادر تلك الحركة، وتؤهلها لخوض، وتحقيق مكاسب سياسية ملموسة، فيما لو وجهت تلك الكوادر نحو الأهداف الصحيحة، بعد انتزاع وازع ذلك الخوف من أذهانها.
هذه الثغرات، ليست أسلوبا من أساليب جلد ذات الحركة الوطنية الديمقراطية، بشقيها المنظم وغير المؤطر، والتي ينتسب لها نسبة عالية من أفراد ومؤسسات القوى السياسية البحرينية، بقدر ما هو تسليط الضوء على بعض النواقص التي تعاني منها، والتي نرى أنها ضرورية قبل أية خطوة يمكن أن تقدم عليها هذه الحركة من أجل رص صفوفها واستعادة المكانة التي كانت تحظى بها، ولا تزال تستحقها، وفي وسعها استعادتها.
نقطة الانطلاق هنا هي أن أية مبادرة يمكن أن تطلقها الحركة الوطنية الديمقراطية، من أجل لم الصفوف وتوحيد القوى وحشدها، لابد لها أن تكون وأن تفهم على أنها:
1. لا تضع نفسها ولا تريد أن تكون بديلا لأي شكل من أشكال التنظيمات القائمة، أو التحالفات المعقودة، بقدر ما هي رديف استراتيجي لها، وقوة من القوى المتناغمة معها.
2. أن الهدف من وراء إعادة رص الصفوف، إنما يعود إلى تضييق شقة الخلاف بين فصائلها من أجل جذب ذلك الكم البشري المهمش أو بالأحرى المشلول نظرا لافتقاده إلى أي وعاء تنظيمي يغريه بالانخراط أو بالأحرى عودة الانخراط في صفوف المعارضة الوطنية الديمقراطية.
3. لابتعاد عن المقاييس التنظيمية التي ولدتها مرحلة العمل السري الضيقة، والانطلاق نحو باحة العمل العلني الرحبة، بكل ما تحمله الرحابة من معان إيجابية.
4. تجاوز الأهداف المرحلية الآنية، دون إهمالها، مثل المشاركة في برلمان 2010، أو الدخول في مهاترات المشاركة أو عدم المشاركة فيها، والنظر نحو ما هو أكثر شمولية وأهم استراتيجيا.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2523 - الأحد 02 أغسطس 2009م الموافق 10 شعبان 1430هـ