يقدم ابن خلدون مادة غنية بالمعلومات في «تاريخ العبر» عن ظروف نشأة دولة الموحدين في المغرب والأندلس، والمصاعب الداخلية والخارجية التي واجهتها، وخصوصا في مرحلتي التأسيس والاستقلال بالدولة.
حسب نظرية صاحب «المقدمة» تحتاج الدولة لقيامها إلى عنصرين ضروريين: أولا العصبية القبلية وهي الشوكة السياسية القادرة على حماية الحكم. ثانيا الدعوة العقائدية التي تعطي لحمة اجتماعية وتمنع تنافر العصبيات وتوحدها في دائرة مشتركة وهدف واحد. فالاجتماع السياسي عنده «عصبي» و«ديني» ولا تقوم الدولة من دون توافرهما.
على هذا الأساس النظري يقرأ صاحب «المقدمة» نشوء دولة الموحدين من بداياتها. فيصف موطن قبائل المصامدة في جبال المغرب، إذ هي «أمم لا يحصيهم إلا خالقهم، قد اتخذوا المعاقل والحصون وشيدوا المباني والقصور واستغنوا بقطرهم منها عن أقطار العالم (...) ولم يزالوا منذ أول الإسلام وما قبله معتمرين بتلك الجبال قد أوطنوا منها أقطارا بل أقاليم تعددت فيها الممالك والعمالات بتعدد شعوبهم وقبائلهم، وافترقت أسماؤها بافتراق أحيائهم» (ص 264).
تقدم الفقرة فكرة عن طبيعة موطن المصامدة وكثرتهم العددية واستقلالهم الاقتصادي واكتفاء أقاليمهم وأقطارهم الذاتي وتوزع بطونهم وافتراقها على أسماء مختلفة. إلى ذلك كان «لهؤلاء المصامدة صدر الإسلام بهذه الجبال عدد وقوة وطاعة للدين ومخالفة لإخوانهم برغواطة في نحلة كفرهم» (ص 265). فابن خلدون يضيف إلى عصبية المصامدة وازع الدين والذود عن الإسلام ضد الخارجين على طاعته، وكان للمصامدة قبل الإسلام ملوك وأمراء وكانوا في حال نزاع مع ملوك المغرب ودخلوا في حروب وفتن داخلية مع قبيلة لمتونة (وهي عصبية دولة المرابطين وشوكتهم) في بلاد المغرب، وبقي الأمر كذلك «حتى كان اجتماعهم على المهدي وقيامهم بدعوته فكانت لهم دولة عظيمة» (ص 265).
بعد أن يحدد ابن خلدون بيئة المصامدة الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية ينتقل إلى موقعهم السياسي «العصبي» وكيف تسنى لتلك القبيلة أن تقيم دولتها العظيمة في بلاد المغرب والأندلس.
اشتهر المصامدة بشدة بأسهم أيام الفتح وحروبهم إلى جانب عقبة بن نافع وموسى بن نصير فاستقاموا على الإسلام وأظلتهم دولة لمتونة. وفي عنفوان تلك الدولة، كما يذكر ابن خلدون، لمع نجم «إمامهم الشهير محمد بن تومرت صاحب دولة الموحدين المشتهر بالمهدي» (ص 266). وأصل ابن تومرت من «هرغة من بطون المصامدة». وزعم «كثير من المؤرخين أن نسبه في أهل البيت» وأن «نسبه الطالبي وقع في هرغة من قبائل المصامدة» وانتسب إليهم وصار في عدادهم وشب «قارئا محبا للعلم» (ص 266).
بهذا التحديد اكتملت شروط قيام الدولة عند صاحب المقدمة. فابن تومرت ينتمي إلى عصبية قبلية وله نسب قديم يتصل بأهل البيت، ولفرع قبيلته باعها الطويل في الحروب والفتوح والتدين وحب العلم، وكلها عناصر ضرورية لنشوء الدولة.
حتى هنا لا جديد في تحليل ابن خلدون، فهذه النظرية يكررها في مطلع كل بحث عن أصول كل دولة. يبدأ الجديد في تلك المعلومات الفريدة التي يقدمها عن تكوين وعي محمد بن تومرت وكيف انتقل من صاحب فكرة إلى صاحب دولة.
بدأ وعي ابن تومرت المختلف عندما ارتحل في طلب العلم إلى المشرق في القرن الخامس الهجري، فاتجه إلى الاسكندرية وقام بفريضة الحج. آنذاك كان المشرق في أسوأ حالاته. فالخلافة العباسية تقلصت إلى حدود بغداد ودخلت الدولة في صراعات عصبية على السلطة وبات الخليفة أسير السلاطين وأصحاب المدن وأمراء الجيوش. وكانت الدولة الفاطمية في مصر تعاني من صعوبات داخلية بعد نجاح حملة الافرنج الأولى في الاستيلاء على القدس وإقامة عشرات الممالك الافرنجية على طول ساحل الشام من انطاكية إلى عسقلان ودفعت الفاطميين إلى داخل حدود مصر وضغطت على مركز الخلافة وعزلته عن البحر المتوسط، وتحولت مدن الشام الداخلية من حلب إلى دمشق إلى حقول معارك وتدافع بين أصحاب الدول التابعة رمزيا للخلافة العباسية وأصحاب الممالك الافرنجية.وكانت تلك المدن تتعرض دائما لهجمات وغزوات سلب وقتل أو حصار من قبل الفرنجة.
في مثل هذه الأجواء دخل ابن تومرت العراق والتقى هناك، كما يذكر ابن خلدون «جلة العلماء يومئذ وفحول النظار» (ص 266). وأخذ ابن تومرت يفكر بتأسيس دولة في المغرب وتحدث عن فكرته للعلماء و»لقي فيما زعموا أبا حامد الغزالي وفاوضه بذات صدره في ذلك» (ص267). ويبدو إن الإمام الغزالي بحث معه في الأمر ودرس أسباب اختلال الدولة في المغرب وتمزق الإسلام آنذاك في تلك الديار ونجاح الفرنجة في الأندلس في تسجيل انتصارات وانتزاع المدن والحواضر من المسلمين.
كان الإمام الغزالي آنذاك يدرّس في بغداد وهو على حاله من أشهر العلماء وأقواهم نفوذا، فهو صاحب «إحياء علوم الدين» الذي أطلق ثورة فقهية تعليمية أثمرت لاحقا في إحياء تعاليم الدين وقيامه بأعباء الدولة والتصدي لحملات الافرنج وهزيمتها. وهو أيضا صاحب كتاب «تهافت الفلاسفة» الذي سدد من خلاله ضربة قوية للفلاسفة المسلمين وكشف فيه تناقض أدلتهم وتعارضها في الكثير من المسائل مع الشريعة الإسلامية. ويعتبر الإمام الغزالي في المعنى المذكور المؤسس الحقيقي لاستقلال الفلسفة الإسلامية حين وضع علامات وفواصل بين فلسفة الفقه وفقه الفلسفة وأعاد رسم الحدود بين ما هو قرآني وما هو يوناني، وأبان معنى الخلط بين الشريعة وفلاسفة النقل عن الترجمات اليونانية.
كان الإمام الغزالي على المذهب الشافعي وطريقة الأشعري في المحاججة والكلام، وهي طريقة وضع أسسها الإمام الأشعري عندما انقلب على المعتزلة وفكك آليات تفكير فرقها في كتابه «مقالات الإسلاميين» ثم اتبع خطواته ومنهجه عشرات العلماء والأئمة برز منهم الإمام الباقلاني وتبعه إمام الحرمين الجويني وهو أستاذ الإمام الغزالي الذي اتصل به ابن تومرت وكشف له عن خطته لإنشاء دولة إسلامية في المغرب تقوم بتوحيد الملة ومواجهة الفتن وحروب الفرنجة في الأندلس.
إلى الغزالي، اتصل ابن تومرت كما يذكر ابن خلدون بأئمة الأشعرية «من أهل السنة وأخذ عنهم واستحسن طريقتهم في الانتصار للعقائد السلفية، والذب عنها بالحجج العقلية الدافعة في صدور أهل البدعة» (ص267).
آنذاك كانت بلاد المغرب، ولاتزال، على المذهب المالكي. وأخذت منذ القرن الرابع تشهد دخول طرق مختلفة في تأويل المتشابه من الآيات والأحاديث وتأثر فقهاء المالكية بمناهج المذاهب السنية الأخرى، خصوصا الأحناف (مذهب أبوحنيفة في الرأي والقياس) والشافعية وطريقة الأشعري في الكلام. وظهرت محاولات فقهية متقدمة تحاول أن تجمع بين المالكية والحنفية أو بين المالكية والشافعية. إلا أن تلك المحاولات اقتصرت على صفوة العلماء والأئمة من فقهاء المالكية ولم تتحول إلى تيار شعبي يؤسس لمذهب توفيقي يجمع العناصر التأويلية والتفسيرية من المذاهب السنية الثلاثة. إلى ذلك، عرفت الأندلس المذهب الظاهري السني وهو طريقة تأخذ بظاهر القرآن من دون الغوص في التأويل والتفسير. وعرف ذاك المذهب بعض الانتشار على يد الإمام ابن حزم الظاهري واقتصر نطاق نفوذه على النخب الفكرية والسياسية وعرف بعض الازدهار في فترة دولة الموحدين، إلا أنه عاد واضمحل إلى أن تلاشى مع نهاية الدولة.
عاد ابن تومرت إلى المغرب مشبعا بأفكار الغزالي وأئمة الأشعرية في ظروف كان العالم الإسلامي يعيش في حالات فوضى وتخبط في مشرقه (محاصرة الخلافة في أضيق حدودها) ومغربه (انقسامات عصبية أخذت تضرب دولة المرابطين) ووسطه (ظهور عوارض الضعف والانحلال في الدولة الفاطمية في مصر) وحملات افرنجية في وقت واحد ضد معاقل المسلمين وحواضرهم في بلاد الشام والأندلس.
بدأ ابن تومرت نشاطه لتأسيس دولته في المغرب على مستويين: الأول نشر دعوته العقائدية. والثاني الاتصال بالقبائل لتبني أفكاره. وخلط ابن تومرت بين مسألتين الأولى الأخذ «بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد، وأعلن بإمامتهم ووجوب تقليدهم، وألف العقائد على رأيهم مثل المرشدة والتوحيد». والثانية قوله «بعصمة الإمام على رأي الإمامية من الشيعة. وألف في ذلك كتابه عن الإمامة» (ص267). فابن تومرت، كما يذكر ابن خلدون، ابن نسب وحسب وتعود شجرة عائلته إلى فرع الطالبيين من أهل البيت لذلك استفاد من علومه الدينية والكلامية على الطريقة الأشعرية ودمجها بأصوله الهاشمية وهي عناصر كافية لإعطاء صدقية لدعوته ونشرها في قومه (قبائل المصامدة) لتعزيز أفكاره بعصبية تمتلك شوكة للدفاع والحروب.
يفترض أن يكون ابن تومرت عاد إلى موطنه في مطلع القرن السادس الهجري (لأن الإمام الغزالي توفي في العام 505 للهجرة وهو في عمر لا يتجاوز 55 سنة). وباشر دعوته، وأطلق على نفسه لقب الإمام وبدأ باتصالات كانت بدايتها فاشلة إلى أن التقى «كبير صحابته عبدالمؤمن بن علي حاجا مع عمه فأعجب بعلمه، وأثنى عزمه عن وجهه ذلك، واختص به، وشمر للأخذ عنه» (ص267).
ارتحل ابن تومرت (الإمام) مع عبدالمؤمن (صاحب الشوكة) إلى مواطن المصامدة في الجبال لنشر الدعوة وتأسيس الدولة. ودخل هناك بمناظرة فقهية أنكر على قومهم «جمودهم على مذهب السلف» ونجح في الظهور على فقهاء المالكية، الأمر الذي أثار الحسد والسخط، فاضطر إلى الارتحال عنهم والانتقال إلى ايكيلين من بلاد هرغة «فنزل على قومه» سنة 515 هجرية/1121م، و»بنى رابطة للعبادة، واجتمعت إليه الطلبة والقبائل، فأعلمهم المرشدة والتوحيد باللسان البربري. وشاع أمره في صحبته» (ص268).
بعد أن وطد ابن تومرت أمره بين أهله انتقل من المناظرات الكلامية إلى المناوشات العسكرية، فأرسل إليه أمير دولة الملثمين (المرابطون) قواته بغية اعتقاله فانتقل إلى معقل يصعب الوصول إليه. وهناك «دعا المصامدة إلى بيعته على التوحيد»، فدخلت قبيلة هرغة في دعوته ولحق بها العديد من القبائل من هنتاتة وتينملل ودميرة ونفيسة. ولما كملت بيعته «لقبوه بالمهدي، وكان لقبه قبلها الإمام. وكان يسمي أصحابه الطلبة، وأهل دعوته الموحدين» (ص 269).
بعد بيعته وانتشار دعوته انتقل في العام 518 هجرية/1124م، إلى المناطق الجبلية الوعرة ومرتفعات البربر، وبنى في جبل تينملل داره ومسجده، وأخذ يقاتل من تخلف عن بيعته من المصامدة حتى استقاموا إلى دعوته ودخلوا في طاعته مثل قبائل هزرجة وهسكورة ووازكيت. ثم اعتزم على غزو لمتونة فهزمهم وبدأ بجمع «كافة أهل دعوته من المصامدة» (ص269). وأبلى عبدالمؤمن خلال معارك «المهدي» أحسن البلاء، فاعتمد عليه في كسر شوكة الخصوم ونجح في ذلك إلى أن كانت وفاة «المهدي» سنة 522 هجرية/1128م.
أطلق على اتباع «المهدي» الموحدين وذلك تعريضا كما يقول ابن خلدون بقبيلة لمتونة «في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم» (ص270). وتوفي صاحب الدعوة في وقت كانت قوات الموحدين في يد قائد عسكري قوي الإرادة ويتمتع بشوكة قاهرة وتحيط به عصبية المصامدة القوية التي تتمتع بالسيطرة الكاملة على جبال المغرب.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2520 - الخميس 30 يوليو 2009م الموافق 07 شعبان 1430هـ