تحت ذريعة تجديد بناء المسرح القومي بإحدى جمهوريات اميركا اللاتينية قبل بضع سنوات هدمت الدولة ذلك المبنى لاقامة مبنى يليق بها وكان المعلن ان تتم إشادة المبنى الجديد خلال عامين، ومر عام ثم عامان وثلاثة ما اثار ضجة في الاوساط الثقافية.
فلما سأل احدهم مسئول الثقافة في تلك الحكومة عن سبب تأخير إعادة بناء المسرح، اجابه هامسا في اذنه لأنه كان بين اصدقائه: «وهل تبني الدولة صرحا لعدو شرس يصوب البندقية إلى رأسها».
هكذا يعتبر المسئولون في دول العالم الثالث ان الصروح الثقافية والفكرية مثل المسرح والأوبرا وصالات العروض وقاعات المحاضرات هي مواقع يستخدمها العدو لتوجيه البنادق منها إلى رأس الحكومة.
ترى هل هذا الكلام صحيح؟
هل الثقافة فعلا تعني العداء للنظام؟
هل المثقف معول هدم لا ساعد بناء؟
هل الثقافة وتوسيع قاعدتها تعني نشر الجراثيم التي تسبب الهلع لدى قيادات العالم الثالث؟
هل مضايقة الثقافة عمل مبرمج أم تأتي بشكل عفوي؟
هل حين تسند أية حكومة عملية تسيير دفة الثقافة والاعلام إلى عناصر لها تاريخ معين، هي عملية عفوية أم مقصودة؟
هذا الاسئلة وغيرها تبرز انطلاقا من رد ذلك المسئول في تلك الدولة الأميركية اللاتينية، لكن هل حال بلادنا أفضل من حال تلك الدولة؟
لنتطلع إلى الصرخة التي اعلنها بعض الاداريين في مسرح الجزيزة في مؤتمرهم الصحافي الذي اقاموه حديثا وهم يتساءلون عن سبب استمرار اغلاق المسرح الذي بدأ بمباركة احد الوكلاء المساعدين لوزارة الاعلام بمجرد ان رفع بعض الاعضاء بلاغا عن تجاوزات مالية في إدارة المسرح؟ واتضح فيما بعد ان البلاغ كان كاذبا أو شبه كاذب اطلقته فئة تطلق على نفسها انها من الغيورين على مصلحة المسرح واتضح فيما بعد انها فئة صغيرة اخترقت بدنها ومزقت شرايينها جرثومية الطائفية حتى صارت تثير التقزز.
ويبدو لي ان رئيس اللجنة التي عينتها الوزارة للإشراف على وضع المسرح اتضح له بجلاء ذلك التآمر فاضطر إلى إلغاء الاجتماع وتأجيله إلى وقت غير محدد وكان على حق، فهذه الفئة كانت تريد ان تلغي عضوية الجميع ما عدا ذلك العدد القادم من هنا وهناك البالغ ثلاثون شخصا فقط والذين اجتمعوا وفي رأسهم موال معين وجميعهم من الطيف نفسه.
اللعنة على الثقافة حين تكون ثقافة طائفية، اللعنة على المثقف الذي يتنفس هواء الطائفية، فإذا كان حاميها يتحول إلى حراميها واذا كانت العناصر المرجو منها محاربة هذا الحس تكون هي التي تريد زرعه وإرواءه من دون حياء أو خجل ساعتها لا يجب علينا ان نستنكر ما يحدث من تغيرات وانقلابات في العالم وليس من المستبعد ان يقوم نظام عربي بالعدوان على نظام عربي آخر ليستعين هذا العربي بالاميركان لتخليصهم من هذه الكارثة، وليس من المستبعد ان يوضع كل بلد عربي واسلامي على قائمة الانتظار ليصدر العدو حكمة بأنه مذنب أو بريء.
فحين يصبح المخرج المسرحي والكاتب المسرحي والممثل المسرحي الذي يجب ان يكون مبشرا للفكر الحر وداعيا إلى ثقافة الحرية والديمقراطية ومحاربا لكل ما يشتت الامة وكل ما يمزق كيان الوحدة سواء على المستوى المحلي أو العربي فإن هذا من علامات الساعة.
فالقيامة لا تقوم إلا بعد الانهيار الاخلاقي للعالم، فهل هناك انهيار اخلاقي اكبر من أن يكون الفنان حامل رسالة السلام والمدافع عن حقوق الانسان هو المعتدي وهو الرافع للواء الطائفية والعنصرية؟
ولو لم يكن كلام ذلك المسئول الاميركي اللاتيني صحيحا من ان المسرح صرح يخلق اعداء للنظام ولهذا تم هدم مبنى المسرح القومي ولم تتم إعادة بنائه لما وافق المسئول عن قطاع المسرح في بلادنا ان يغلق مسرحا وقاعة محاضرات وموقعا نشطا لنشر الفكر والفن من دون عذر شرعي ثم لا تتم إعادة فتحه مع مرور اكثر من سنة ونصف السنة.
كنت اتوقع انه بعد ان تولى المنصب - بدلا عن ذلك الذي تسبب في إغلاق المسرح - شخص آخر يفترض فيه أن يكون اكثر تحمسا للثقافة ان يضع إعادة فتح هذا المسرح المغلق وتحريك كل مراكز الثقافة والفنون ودفعها بكل قوة إلى الامام لتكون واجهة البلد الحقيقية على قائمة اولوياته، لكنا لم نجد ما تحمسنا إليه وراهنا عليه.
وإذا كان بعض اعضاء مسرح الجزيرة كما يزعم هؤلاء الذين تسببوا في إغلاق المسرح بمساعدة المسئول السابق، فلماذا لا يتم لافصاح عن تلك التجاوزات ثم ما ذنب المسرح كمسرح لاقفاله وهو ملك لمجموعة المنتسبين إليه وليس لأعضاء مجلس الادارة، وحتى لو ارادت وزارة الإعلام كما تزعم انها جمدت نشاط المسرح لجرد ما به والقيام بالمحاسبات المطلوبة فهذه المهمة لا تحتاج إلى اكثر من اسبوع أو اسبوعين أو على الأكثر شهر لا سنتين، فالوزارة لا تقوم بجرد شركة نفط أو منشأة صناعية بها عدة مليارات من الدولارات، انه مجرد مبنى يضم بضعة كراسي وربما كمبيوترا وعددا من الاواني وبعض القطع من السجاد ما لا يستدعي خبراء عالميين في المحاسبة ولا الحديث عن التجاوز المالي الذي بولغ فيه وتم تهويله من قبل فئة المعادية للادارة واتضح فيما بعد انها ليست معادية للادارة فحسب بل هي تعمل من منطلق طائفي مخجل وتريد التخلص من كل الاعضاء السابقين لترث هي المسرح وكأنه تركة لاجدادها تم الاستيلاء عليها وهي تريد استرجاعها وتوزيعها على الاخوة فقط.
إن الوزارة كما يبدو لا يهمها علاقات هذا المسرح العريق بمختلف الجهات المسرحية والثقافية في الكثير من البلدان الخليجية مثل الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية التي صارت تتساءل عن اسباب اغلاق مؤسسة ثقافية لا ذنب لها حتى لو كان اللوم يقع على عناصر محددة فهذا لا يكفي لأن يصبح المسرح الضحية. ان اللجنة التي تم اسناد مهمة التقصي إليها لجنة محايدة ومحل تقديرنا جميعا وكان بإمكانها وضع حد للموضوع وكشف الاخطاء التي حدثت، كان يمكنها ان تفعل ذلك في هدوء وإلقاء اللوم على اي متجاوز فعلا، وهذا ما حدث فقد اسندت الوزارة العملية إلى لجنة عاقلة ناضجة تدرك الاصول وتدرك ان التجاوزات في مسرح صغير لا يمكن ان تصل مستوى يستحق كل هذه الضجة، وهي تدرك ان مثل هذا التجاوز لا يبلغ حد المتعارف عليه في بلادنا في المجالات الاخرى، التي تصل بالملايين ونهب اراضي المال العام الذي لا يتوقف، والاكتشافات تظهر كل يوم وآخر، كم من الاراضي تم دفنها في البحر وأقيمت جزر وبحيرات وأراض تكاد تصل إلى نصف مساحة البحرين نفسها ويتم السكوت عنها، بينما موضوع (مسرح) لم تتجاوز كلفته 30 أو 40 ألف دينار هو الاكتشاف الاخطر وهو الذي سيهز كيان هذه الدولة وان الشعب البحريني يعيش هذا البؤس والفقر من جراء ما حدث في مسرح الجزيرة، ما فرض طول إغلاق هذا المسرح، وهنا تبرز مجموعة من الأسئلة أهمها:
هل وزارة الاعلام غيورة على الثقافة فعلا؟
هل يفهم المسئولون عن القطاع المسرحي مدى خطورة محاصرة هذا الفن؟ وهل لديهم احساس بهذا الفن العظيم؟
هل سمعوا بتعليقات المثقفين الخليجيين عن هذا الوضع المزري لما جرى وكأنه تم إغلاق محل للمنكر لا اغلاق مركز إشعاع ثقافي؟
كم مسرحا تم بناؤه للفرق المسرحية منذ ان دخلنا عصر الاستقلال والتنظيم الجديد للدولة؟ مقابل محلات بيع المنكر التي تعج بها بلادنا؟
ألا يذكر المثقفون ورواد المسرح والمسئولون كيف ان جمهور المسرح مع كل ذلك النشاط المسرحي الكبير في الستينات والسبعينات عاش على تركة الجيش البريطاني، إذ كانت القاعدة الوحيدة للعروض المسرحية؟ ومازالت البحرين من دون قاعة جيدة.
أليس من المخجل ان تبلغ قضايا صرح ثقافي مثل هذا المسرح إلى المحاكم بحيث تصبح الادارة اكثر حرصا من المسئولين في وزارة الإعلام الراعية لفن المسرح بالتعجيل بافتتاحه؟
هل كتب الله على شعب هذا الوطن ان تظل مشكلاته مستمرة مع الجهات المسئولة حتى في مجال الثقافة؟
كان الاجدى بوزارة الإعلام ان تكون أكثر حرصا من اي عضو في هذا المسرح على ألا تطول فترة اغلاق واجهة ثقافية مهما بلغ الخلاف بينها وبين افراد من هذه المؤسسة أو كراهيتها لهم فإن ذلك لا يعطيها الحق في اغلاق هذا المسرح وخصوصا ان هناك ارتباطات لمئات الاشخاص من مثقفين ورواد ومهتمين بالثقافة على علاقة مع هذا المسرح الذي شهد الجمهور له الكثير من الفعاليات الثقافية والمسرحية كان آخرها الاحتفال بمرور 75 عاما على بدء مسيرة المسرح البحريني.
ولو كان اعضاء مجلس الادارة الذين هم محل الخلاف اعضاء في الحزب الشيوعي أو لهم علاقات مشبوهة بدول اجنبية لسلمنا بأن الامر خطير، وان الموضوع يستحق كل هذه الضجة وكل هذا التأجيل. انهم بالعكس متهمون بأنهم على وفاق مع الجهات الرسمية وهم متهمون بأن مواقفهم تصب في صالح الحكومة وكانوا محل انتقاد من قبل الكثير من القوى الوطنية وربما كنت اولهم بسبب بعض المسرحيات التي قدموها مثل المسرحية التي قدمت في اعقاب ايقاف العمل بدستور 1973 وأظن كانت مسرحية (نواخذة الفريج) التي استهزؤوا فيها بأعضاء المجلس الشرفاء ما جعلنا نتهمهم بالعمالة.
ولو كان القياديين في وزارة الإعلام هم عناصر تقدمية وتتضح افكارهم بالحس القومي والتقدمي لقلت يأتي هذا انتقاما منهم، أما وقد ثبت ان معظم الذين كنا (نغتر) بهم من الاسماء اللامعة التي كان (يتنطط) اصحابها ايام التلمذة على كراسي جامعة الكويت وبغداد والقاهرة قد غيروا جلدهم وصاروا حكوميين اكثر من الحكومة نفسها بحيث بلغوا حدا أن أحد كبار المسئولين قال لي لقد احرجونا من كثرة ما صاروا يفلسفون اخطاء النظام فنحن نريد ان نمرر بعض القضايا من دون ضجة، فنجد اصحاب البيعة الذين اسندت اليهم بعض المواقع الثقافية يبررون ما لا يمكن تبريره.
ولله في خلقه شئون، فمن يدري بالتغيرات التي حدثت مادام كولن باول يتحدث عن الشراكة مع الشعوب بدلا من الحكومات وتطالب الادارة الاميركية بخلق الديمقراطية في الشرق الاوسط وتوزيع الدخل بشكل عادل بعد أن كانت اميركا والغرب وراء تثبيت كل الانظمة العربية، ومن يدري فقد يكون زمن المعجزات قد عاد وان الله سيغير العالم وسيلهم المسئولين
العدد 252 - الخميس 15 مايو 2003م الموافق 13 ربيع الاول 1424هـ