كنت ذات مرة منذ سنوات قد كتبت عن التفاصيل الصغيرة للسعادة.
يومها كنت في لندن أعاني من أنفلونزا حادة أفقدتني القدرة على الإحساس بطعم الأشياء، وأسميت المقال «طعم الحياة»، وعبرت عن حزني لأني غير قادرة على الاستمتاع بطعم كوب من الشاي لأن أي شيء أثناء المرض وفقدان حاسة الشم يغدو لا طعم له ولا رائحة، وهي متعة من المتع القليلة التي يشعر بها المواطن العربي الذي حرمته السلطة من ألوان وصنوف شتى من السعادة فلم يبق له إلا لفافة تبغ أو كوب من الشاي يستمتع بها في ساعات العصر والمساء، ويقنع بما عنده، غير طامع فيما هو أبعد من ذلك في الغالب الأعم.
منذ أيام أرسل لي الصديق أبو حسان الذي لم أره في حياتي من جوار الرسول في المدينة المنورة حيث يقيم رسالة من رسائله المحببة إلى نفسي لأنها تعكس وده الصافي في الله الذي يجعله يوقف مصحفا باسمي في المسجد النبوي ويدعو لي في الكعبة دون أن يراني.
أرسل أبو حسان رسالة رقيقة عنوانها نتف من السعادة يحمل معنى رفيف هو أن السعادة تتناثر نتف منها في حياتنا اليومية لكننا لا نشعر بها ونمر عليها دون أن نلتفت، أو نتوقف شاكرين ممتنين.
الرسالة حملت كلمات لإحدى الكاتبات في الغرب تقول إن لعب الأطفال في الساحة المجاورة وضحكاتهم، وقطة متثائبة تجلس تنتظر من يهزها أو يداعبها في الحديقة، أو لون الزهر في الربيع، كلها نتف من السعادة يمكن أن نقتنصها في يومنا المليء بالهموم.
اليوم جلست في الجامعة أكتب تقريرا في دار الضيافة كي أتمكن من التزود بالشاي لمدة ليست بالقصيرة.
في طرف المكان شاهدت جدا يحمل رضيعة ضعيفة لا يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر، ففهمت أن الأم زميلة تجتاز امتحان أو تناقش رسالة جامعية.
اقتربت منه وتوددت له حتى يسمح لي بأن أحمل تلك الزهرة الصغيرة بين ذراعي، ففعل بابتسامة ودوية، وعلمت أنه قد صدق حدسي وأن والدتها تجتاز امتحانا بكلية الحقوق.
منذ سنوات طويلة لم أحمل رضيعة بهذا الحجم، فذكرتني بأبنائي حين كانوا صغارا أضمهم في صدري، الآن نتعارك معظم الوقت شأن الأمهات في لحظات مراهقة البنات ونمو الصبي الذي يقف على أعتاب الفتوة.
تأملت في أذنها الصغيرة وحركة يديها وعيونها بل وأصابع قدميها وغمرتني سعادة.
أسلمتها للجد الذي طفق يسألني بعض النصائح حين علم أن لدي من الأبناء ثلاثة، ووضعني في مقام الخبيرة.
أسعدته وأسعدني. تلك نتف من السعادة ملأت ساعة كاملة... وهذا حظ عظيم.
قد نتجاوز أحيانا هذه اللحظات فننساها لكن يذكرنا بها شخص لم تهملها ذاكرته واحتفظ بالنتف في مكان من القلب.
كنت في جمع مع طلابي، فتحدثوا عن أحلامهم، ثم شرع أحدهم من الجيل السابق يوضح للأصغر سنا أني أكتب للطلاب أحيانا بعض النثر في كتبهم.
سألوه هل تحفظ شيئا فطفق يردد شيئا كتبته له منذ سنة ونيف، فقد ناولني كراسة وكتب لي أعلى الصفحة «أكتبي لي شيئا!» وهو يظن أني سأكتب سطرا أو عبارة مجاملة أتمنى له فيها مستقبلا زاهرا.
أخذت منه الورق وجلست في مكان بعيد من القاعة وانسابت الكلمات من القلم... لم يكن مقصودي أن أكتب له نثرا موزونا بل كنت فقط أريد أن أمنحه بعض السعادة، فإذا النية تتحول إلى عمل والورقة تمتليء بالكلمات.
..
ماذا أكتب لفتى
يغزل من أحلام البسطاء
طوق ورود
ويحمل وجها
بالبشر مريح
ويصوغ الحرف الحر
يغني
أبياتا وتبارح
وبصمت حكيم يتعافى
من قسوة أيام
ويحلم أن يحمل كل الأنات
عن كل جريح...
ماذا أكتب للأكرم
كلمات تستبطن معنى
أم معنى بالكلمات صريح
... سأكتب دعوة أم
أن يرزقك المولى تقوى
وأن تبقى كالغيث المدرار
تنثر خيرا
وأن يمنح ربي زورقك الوجهة
ويملأ أشرعتك بالعزم...
ونبض الريح.
....
كست وجهه يومها ابتسامة اتسعت بعد أن ألقى الكلمات على الجمع فصفقوا له فجلس منتشيا يفيض وجهه بالبهجة، وتجدد شعوري بالسعادة له... ومعه.
غريبة اللغة كيف تختزن المعنى، والعاطفة والإحساس.
مررت بعد انتهاء يوم العمل على حدائق الجامعة وواجهني منظر قبة جامعة القاهرة الشهير، في الصيف وحين تخلو الجامعة من زحام الطلاب أشعر وكأني أستعيدها لي وحدي، وأتذكر في كل مرة أسير فيها من دون مجاهدة التحرك وسط الجموع الحاشدة... أمسيات كنت أخرج فيها من المحاضرات وأسير بعد انصراف الزملاء في هذا الطريق وحدي مستمتعة بمهابة البناء وعراقة التاريخ... وأضواء المباني تلمع وساعة الجامعة تدق.
استشعرت السعادة حين عادت الذكريات... وشعرت أني أخف وزنا، وأن النسمات تلفح وجهي تحية من الأشجار المجاورة، التي أهدتني رائحة أزهارها الصفراء.
في البيت كان ابني علي الدين ينتظرني، عادة ما يسألني عن سبب تأخيري فأحدثه عن طول اليوم وبطء اللحظات وشوقي إليه فيخفف من عتابه ويحتضنني، اليوم استقبلني مباشرة بالقبلات فأسعدني، وضعت حقيبتي على الأرض ورفعته فتبرم ضاحكا وحاول الإفلات فهو لا يحب أن يشعر بأني قادرة على حمله، فهو يزن نفسه كل يوم ليتأكد من نمو جسمه.
أسعدتني القبلات، والضحكات. هذه ليست نتف سعادة... هذه هي السعادة بعينها.
من انجلترا جاءتني رسالة على الهاتف النقال وأنا أتناول طعام العشاء، لا بد أنه وليد، أحد الشباب الذين ذهبوا يبحثون عن مستقبل ودراسة في الخارج، الرسالة بها دعاء، والتوقيع منه ومن زوجته نسرين.
ابتسمت، وتذكرت كيف اختارها وكيف تم الزواج بسرعة... وسافرا.
أسعدني سؤاله... وبادلته دعاء بدعاء.
نمت سعيدة... لا يحدث هذا في كل الأيام... نمت سعيدة وشاكرة وحامدة، وتسللت الأحلام إلى وسادتي، واستيقظت في اليوم التالي وأنا مبتسمة. هذا يوم جميل، سأحرص على أن أهدي السعادة... نتفا ومساحات وذكريات... للآخرين.
السعادة إحساس يسري، بمثل ما الحزن والكآبة قادرة على احتلال الوقت والتغلغل في النفس طويلا.
إذا عرفتم مفاتيح السعادة فافتحوا بها مغاليق القلوب، وإذا أدركتم منها نتفا فاجمعوها واصنعوا منها باقة ورد لأم، أو قصيدة شعر لصديق، أو بعضا من البسمات تنثرونها على طريقكم.
«تحصيل السعادة» كان عنوان كتاب للفارابي، فهل نحن في حاجة لفلسفة معقدة كي نحس بالسعادة؟
البسمة صدقة، والسعادة منحة، والبهجة هدية ثمينة، لا تنتظروا سعادة تجتاح الحياة كالطوفان، فهذه لا تأتي إلا نادرا، لكن استمتعوا بالسعادة في التفاصيل الصغيرة... كل يوم.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2517 - الإثنين 27 يوليو 2009م الموافق 04 شعبان 1430هـ