تراجعت فلول جيوش الحرب التلاسنية الإعلامية التي فجرها رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية والقيادي في حركة «فتح» فاروق القدومي، التي أعلن فيها عن «تورط رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ومدير أمنه محمد دحلان في اغتيال الرئيس ياسر عرفات وقيادات في حركة حماس، وعلى رأسهم عبد العزيز الرنتيسي»، رغم استمرار بعض ذيولها، حيث توعد عباس، بعد أن وصف القدومي بالمتمرد على حركة فتح، «بإحالة ملفه على اللجنة المركزية لفتح للمحاسبة على جميع المستويات»، دون أن ينسى وصف اتهامات القدومي بأنها لا تعدو كونها «أكاذيب وزوبعات لتعطيل مؤتمر فتح المقبل». لم يعد قائما من تلك الحرب سوى تصريح أدلى به القدومي، ينذر فيه عباس بالكشف عن تسجيلات صوتية حية تدعم تلك الاتهامات.
من جانب آخر، تدخل المستشار السياسي السابق للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بسام أبو شريف في المعركة، مستبعدا أن تكون لمحمود عباس «علاقة بوفاة عرفات، وأن معلوماته تجزم بأن رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون وشاؤول موفاز اجتمعا واتفقا على قتل عرفات».
كان يمكن أن تمر اتهامات القدومي، مرور الكرام، دون أن تترك وراءها أية ذيول سياسية، لولا العوامل التالية:
1. موقع القدومي في الثورة الفلسطينية عموما، وفي حركة فتح على وجه الخصوص، فهو رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير، وأمين سر الحركة، وفوق هذا وذاك، هو من القلة النادرة الباقية على قيد الحياة من «كهنة معبد فتح»، الذين شكلوا في فترة من الفترات الدائرة الضيقة شبه المغلقة التي تنطلق منها معظم، إن لم يكن جميع القرارات الاستراتيجية الفلسطينية، من مستوى الموافقة على قرار «خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت»، والمشاركة في «لقاءات أوسولو»... إلخ.
2. المكانة السياسية التي يحتلها محمود عباس، فإلى جانب عضويته هو الآخر في ذلك المعبد، فهو اليوم على قمة الهرم السياسي الفلسطيني، في مرحلة اتسمت بغياب الرموز الفلسطينية الأساسية، من أمثال أبو عمار وأبو جهاد من حركة فتح، وجورج حبش من اليسار الفلسطيني، وأحمد جبريل من القوى القومية... إلخ. هذا يعني أن التشكيك في قمة الهرم، وفي أعضاء المعبد، يعني التشكيك في الثورة وجذورها، دون أن يكون هناك من يملك الثقل التنظيمي والتاريخ السياسي الذي يؤهله للتدخل ووقف تلك الحرب بشكل أو بآخر.
3. اقتراب موعد انعقاد المؤتمر السادس لحركة فتح، وما يمكن لمثل هذه التصريحات أو الاتهامات أن تحدثه من انشقاقات تنظيمية عمودية معلنة داخل الحركة، وهو أمر لم يعد بوسع الحركة التعايش معه، وليس في طاقة الوضع الفلسطيني، بكل فصائل المقاومة اليوم، القدرة على استيعابه.
هذه الحالة تشكل أرضية خصبة، كي ينحرف النقاش من معالجة الأوضاع الفتحاوية التنظيمية، وبرنامجها السياسي في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية القائمة، إلى الضياع في دهاليز التحقيقات الأمنية من أجل الوصول إلى حقيقة وصحة ما وجهه القدومي من اتهامات.
4. ارتفاع أصوات القوى الانتهازية العربية المطالبة برفع الدعم ووقف كل أشكال الدعم العربي للقضية الفلسطينية تحت مبررات واهية تستخدم فيها ما جاءت به اتهامات القدومي لتحقيق أغراض دنيئة في نفوسها، من خلال التشكيك في كل ما هو فلسطيني، والذهاب إلى الترويج، كما بدأ يصل إلى مسامعنا، إلى مقولة أن «هذه الثورة فاسدة، ويقوم على قيادتها زمرة من الفاسدين». خطورة دور هذه القوى مصدره إحداث تغيير نوعي سلبي في طبيعة المكانة التي تحتلها القضية الفلسطينية في الساحة السياسية العربية، بكل فئاتها.
5. استفادة القوى الصهيونية من القصة ذاتها، التي تبدو فيها المؤسسة الصهيوينة في صورة «السوبر مان» القادر على اختراق الأجهزة العربية، والوصول إلى رؤسها القيادية، بل، وكما جاء في الاتهامات، التنسيق معها لتحقيق أغراض صهيونية محضة من مستوى تصفية شخصيات من مستوى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. بقدر ما يسيء ذلك إلى القضية العربية وفي القلب منها القضية الفلسطينية، بقدر ما يعزز نفوذ القوى الصهيونية في المؤسسات الدولية، ويمكنها من تحقيق المزيد من التقدم لصالح مشروعها الصهيوني المستقبلي.
كما هو واضح، فلم يكن الغرض من وراء تناول الموضوع، الوصول إلى حقيقة ما ورد في اتهامات القدومي، بقدر ما كان الغرض إلقاء بعض الضوء على مدى الإساءة والضرر اللذين سيلحقان بالقضية الفلسطينية، سواء كان ما قاله القدومي صحيحا، أو مختلقا لتحقيق «أهداف شخصية وثارات تنظيمية» كما ورد في بعض وسائل الإعلام، وعلى لسان مسئولين فلسطينيين، جراء طرح مثل تلك الاتهامات على صفحات الجرائد، ومن خلال المحطات الفضائية.
لقد كان حريا من أبو اللطف، وهو الاسم الأكثر شهرة للقدومي، أن يمرر تلك الاتهامات عبر القنوات التنظيمية الصحيحة سواء داخل صفوف حركة فتح أو قنوات منظمة التحرير الفلسطينية، عوضا عن طرحها علنا وعلى الملأ، فاليوم، وبغض النظر عن مقاصد أبو اللطف، لا يمكننا أن نرى مستفيدا من تلك التصريحات أكثر من «إسرائيل» نفسها، وهو أمر لا يمكننا القول إن أبو اللطف يقبل به.
لقد فجر أبو اللطف حربا فتحاوية داخلية، لكنها، هذه المرة، حربا بين الكهنة أنفسهم، وهذه هي المرة الأولى التي يشن فيها «كهنة فتح» حربا داخلية «علنية» بينهم، وهنا تكمن خطورة، وسلبية ما أدلى به أبو اللطف من اتهامات، التي وجه سهامها نحو جسد فلسطيني مثخن بالجراح.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2513 - الخميس 23 يوليو 2009م الموافق 30 رجب 1430هـ